25 اغسطس 2024
رقصتي الخاصة
دخلت، في أواخر سنة 2003، غرفة العمليات في جناح جراحة القلب في مشفى المواساة، وأنا أبدو في قمة المرح. قلت للطبيب المخدّر إنني عشت السنوات الـ 51 الأولى من حياتي بشكل صعب، طفولة معذبة، ومراهقة تعيسة، مع غياب كامل للمرأة عن حياتي، ومع أنني كنت متفوقاً في الدراسة، إلا أن ثمّة لحظاتٍ كانت تمرُّ بي أتمنى خلالها أن تغور الكتب والدفاتر والأقلام من حياتي..
الحياة، يا دكتورنا العزيز، لم تُعْطِني كُلَّ شيء أردته. ولكن، عهداً علي، إذا خرجتُ من تحت أيديكم سالماً، سأعيش الـ 51 سنة الثانية بأكمل صورة. بدّك الصراحة؟ أنا متفائل بنجاح عمليتي، لأن الدكتور بشار عزت الذي سيجريها يمتلك سمعةً، ربما لم يمتلكها طبيب آخر في سورية. أما طبيب التخدير، يعني حضرتك، فقد اخترناه نحن.. الواسطة عندنا في سورية سارية المفعول، حتى في مجال اختيار الطبيب. هل تحب أن أحكي لك طرفة واقعية؟ قال: تفضل.
قلت: حينما أُجْرِيَتْ لي القسطرة، في مشفى الأسد الجامعي، اشترطوا علينا أن نبقى على الريق. وبعد خروجنا من الغرفة، أوضح لنا الطبيب أننا لا يجوز أن نأكل أي شيء قبل مضيّ ساعتين في الحد الأدنى.. ولكن، بعينيّ هاتين شاهدتُ مريضاً خارجاً من القسطرة على نقالة متحرّكة. وفي الطريق، لاقاه ابنه وناوله ساندويشة. وفي غرفة الاستراحة رأيته يكمل التهامها. وبعد قليل دخل رفيق له، محمولاً على النقالة، فبادره بالسؤال: جَلِيْتْ؟ وهي كلمة بدوية تعني: هل أكلت؟
ضحك الطبيب، فتابعت أقول له: أنا، كان يرافقني ابن عمي محمد وردان، فطلبت منه أن يقرّب أذنه من فمي، فلما فعل سألته عما يجري حولنا.. وكيف سُمِحَ لهؤلاء الناس أن يأكلوا، بينما أنا ممنوع عليَّ ذلك؟ فقال لي بكل جدية: ربما كبسوا للطبيب أو للممرض خمسمية ليرة في يده، فسمح لهم بذلك. وفي المحصلة، يا عمي خطيب، مَن يموت يكون خالصاً عمرُه.
كان الممرض يدفع النقالة ذات العجلات التي كنتُ مستلقياً عليها من الخلف، وكنت أرى وجه الطبيب ينظر إلي، وهو مندهش، يضحك أحياناً ويعبس أحياناً، وأظنه كان يفكّر مع نفسه أن مرحي زاد عن حده "حبتين". وقبل أن يعثر على جواب سألتُه، بكل جدية: دكتور، إذا مريض القلب نفذ بريشه، وطلع من عندكم بالسلامة، هل بإمكانه أن يرقص مثل زوربا؟ قال بلهجة مواسية: يرقص طبعاً يرقص. فقلت له: أرجو ألا يذهب تفكيرك إلى أنني أريد أن أرقص مثل زوربا، إنما أريد أن أرقص رقصتي الخاصة. أنا لا أحب التقليد. أصلاً هناك اختزال مزعج في عقليات الناس، إذ يربطون هذه الرقصة المدهشة بالممثل الذي أدّاها، أنطوني كوين.
في الداخل، حينما نقلوني من العربة ذات العجلات إلى طاولة العمليات، وأصبحت محاطاً بفريق العمليات، أصبح طبيب التخدير بحاجةٍ لأن يُبقي معنوياتي عالية، وأن يبقى ضغطُ دمي ضمن الحدود الطبيعية، فقال لي: حديثك جميل. وبصراحة أنا لم يمر علي، خلال عملي، مريض مثلك. قل لي: هل الجو هنا مناسب لك؟ قلت: مناسب، ولكن المكان بارد، لقد بدأ قلبي يرتجف. قال: هذه بسيطة جداً. بإمكاننا أن نرفع درجة الحرارة بسهولة. وبعد أقل من دقيقةٍ، شعرتُ بالدفء. قال لي الطبيب: في رقصة زوربا، برأيك، أين الاختزال؟
قلت له: هناك مؤلف عبقري اسمه نيكوس كازنتزاكي، اخترع الشخصية وأنطقها، حتى ظنناها واقعية أصلاً. وهناك سيناريست مبدع كتب سيناريو مشهد الرقصة. وهناك مخرج رهيب، وممثلون، وعازفون، وكومبارس، وعمال إضاءة، وصوت، وماكياج، ومصممو ملابس، ومونتير، وعمال إنتاج اختاروا مكان التصوير بعناية، ووضعوا فيه الإكسسوارات اللازمة.. وأخيراً هناك أنطوني كــ..
يبدو أنه قد أعطاني إبرة المخدر، ولا أذكر أنني قلت شيئاً بعد هذا.
الحياة، يا دكتورنا العزيز، لم تُعْطِني كُلَّ شيء أردته. ولكن، عهداً علي، إذا خرجتُ من تحت أيديكم سالماً، سأعيش الـ 51 سنة الثانية بأكمل صورة. بدّك الصراحة؟ أنا متفائل بنجاح عمليتي، لأن الدكتور بشار عزت الذي سيجريها يمتلك سمعةً، ربما لم يمتلكها طبيب آخر في سورية. أما طبيب التخدير، يعني حضرتك، فقد اخترناه نحن.. الواسطة عندنا في سورية سارية المفعول، حتى في مجال اختيار الطبيب. هل تحب أن أحكي لك طرفة واقعية؟ قال: تفضل.
قلت: حينما أُجْرِيَتْ لي القسطرة، في مشفى الأسد الجامعي، اشترطوا علينا أن نبقى على الريق. وبعد خروجنا من الغرفة، أوضح لنا الطبيب أننا لا يجوز أن نأكل أي شيء قبل مضيّ ساعتين في الحد الأدنى.. ولكن، بعينيّ هاتين شاهدتُ مريضاً خارجاً من القسطرة على نقالة متحرّكة. وفي الطريق، لاقاه ابنه وناوله ساندويشة. وفي غرفة الاستراحة رأيته يكمل التهامها. وبعد قليل دخل رفيق له، محمولاً على النقالة، فبادره بالسؤال: جَلِيْتْ؟ وهي كلمة بدوية تعني: هل أكلت؟
ضحك الطبيب، فتابعت أقول له: أنا، كان يرافقني ابن عمي محمد وردان، فطلبت منه أن يقرّب أذنه من فمي، فلما فعل سألته عما يجري حولنا.. وكيف سُمِحَ لهؤلاء الناس أن يأكلوا، بينما أنا ممنوع عليَّ ذلك؟ فقال لي بكل جدية: ربما كبسوا للطبيب أو للممرض خمسمية ليرة في يده، فسمح لهم بذلك. وفي المحصلة، يا عمي خطيب، مَن يموت يكون خالصاً عمرُه.
كان الممرض يدفع النقالة ذات العجلات التي كنتُ مستلقياً عليها من الخلف، وكنت أرى وجه الطبيب ينظر إلي، وهو مندهش، يضحك أحياناً ويعبس أحياناً، وأظنه كان يفكّر مع نفسه أن مرحي زاد عن حده "حبتين". وقبل أن يعثر على جواب سألتُه، بكل جدية: دكتور، إذا مريض القلب نفذ بريشه، وطلع من عندكم بالسلامة، هل بإمكانه أن يرقص مثل زوربا؟ قال بلهجة مواسية: يرقص طبعاً يرقص. فقلت له: أرجو ألا يذهب تفكيرك إلى أنني أريد أن أرقص مثل زوربا، إنما أريد أن أرقص رقصتي الخاصة. أنا لا أحب التقليد. أصلاً هناك اختزال مزعج في عقليات الناس، إذ يربطون هذه الرقصة المدهشة بالممثل الذي أدّاها، أنطوني كوين.
في الداخل، حينما نقلوني من العربة ذات العجلات إلى طاولة العمليات، وأصبحت محاطاً بفريق العمليات، أصبح طبيب التخدير بحاجةٍ لأن يُبقي معنوياتي عالية، وأن يبقى ضغطُ دمي ضمن الحدود الطبيعية، فقال لي: حديثك جميل. وبصراحة أنا لم يمر علي، خلال عملي، مريض مثلك. قل لي: هل الجو هنا مناسب لك؟ قلت: مناسب، ولكن المكان بارد، لقد بدأ قلبي يرتجف. قال: هذه بسيطة جداً. بإمكاننا أن نرفع درجة الحرارة بسهولة. وبعد أقل من دقيقةٍ، شعرتُ بالدفء. قال لي الطبيب: في رقصة زوربا، برأيك، أين الاختزال؟
قلت له: هناك مؤلف عبقري اسمه نيكوس كازنتزاكي، اخترع الشخصية وأنطقها، حتى ظنناها واقعية أصلاً. وهناك سيناريست مبدع كتب سيناريو مشهد الرقصة. وهناك مخرج رهيب، وممثلون، وعازفون، وكومبارس، وعمال إضاءة، وصوت، وماكياج، ومصممو ملابس، ومونتير، وعمال إنتاج اختاروا مكان التصوير بعناية، ووضعوا فيه الإكسسوارات اللازمة.. وأخيراً هناك أنطوني كــ..
يبدو أنه قد أعطاني إبرة المخدر، ولا أذكر أنني قلت شيئاً بعد هذا.