رسائل بوتين إلى ماكرون

17 فبراير 2022

بوتين يخاطب ماكرون في مؤتمر صحفي لهما في موسكو (7/2/2022/فرانس برس)

+ الخط -

أعقب زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، روسيا، في الأسبوع الماضي، من أجل الوساطة، بغية نزع فتيل الأزمة الأوكرانية، كمٌ من السجال في أوساط المراقبين والخبراء، وكثير من السخرية والتهكم في مواقع التواصل، فما تخلّل أطوار اللقاء، تصريحاً أو تلميحاً، من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يكفي لإحاطة المتابعين علماً بمجريات خمس ساعات من النقاش بين الطرفين، وبثّ رسائل مشفرة إلى أكثر من جهة؛ داخلياً وإقليمياً ودولياً.

يتعمد بوتين، متى تعلق الأمر بالمناكفة والتنافس، التمرّد على البروتوكول، بالتفريط في الأدبيات والأعراف الدبلوماسية، وفق حساباتٍ غالباً ما ترتبط بالضيف والزيارة والسياق.. لكنّ ما لقيه ماكرون، في الزيارة، تعدّى الهفوات المألوفة داخل الكرملين، نحو الإمعان في الإهانة، بشكل لم يسبق أن تعرّض له قائد أو زعيم أجنبي في روسيا، فلم يفوت الرئيس بوتين أي فرصة، على مدار اللقاء، من دون الاستخفاف بالضيف الذي بات شبه مصدوم من تصرّفات مُضيفه.

اهتزاز صورة فرنسا، في السنوات الأخيرة، شكّل معطىً إضافياً، ساهم في تعزيز جرأة الروس عليها

 

كانت البداية مع طريقة الاستقبال التي فُسِرت بأنّها مجرّد التزام بالتدابير الصحية للوقاية من فيروس كورونا، ما أثار تساؤلاً عن غياب هذه الإجراءات، وما رافقها من صرامة، خلال زيارة رئيس الأرجنتين، ألبرتو فرنانديز، قبل أيام من قدوم ماكرون إلى موسكو. ثم طول طاولة المحادثات بين بوتين وماكرون، في مقر الرئاسة الروسية، وكذا طريقة جلوس الرئيسين على طرفيها. تضمّنت تلك التفاصيل أكثر من رسالة؛ ففي كيفية الجلوس إشارة إلى حجم الفجوة بين روسيا والغرب، بشأن الملف الأوكراني. وكان طول الطاولة بمثابة طلب روسي إلى فرنسا الوقوف على مسافة آمنة من الجميع، وكأنّ موسكو تُذكّر باريس بالخيانة التي تعرّضت لها، أخيرا، (بسبب تحالف أوكس) ممن تتوسط لهم اليوم. وجاءت إشارة بوتين بيده، أمام عدسات الكاميرات، بعد نهاية المؤتمر الصحافي، إلى المكان الذي سيتوجه إليه، من دون انتظار ماكرون الذي سار وراءه، في مشهد مُخّلٍّ بالتقاليد الدبلوماسية، لتبعد فرضية الخطأ أو السهو، وتثبت وجود نية مبيّتة وسبق إصرار.

ما كان لقيصر روسيا أن يُمعن في الاستخفاف برئيس الجمهورية الفرنسية، لو كان أمام رؤساء كبار، أمثال ديغول وميتران وشيراك. أما وقد أيقن أنّ المتعاقبين (ساركوزي، هولاند، ماكرون) على قصر الإليزيه، منذ بداية الألفية الثالثة، غير قادرين على فرض صورة رجل الدولة داخل فرنسا، فأنّى تكون لهم كاريزما القائد أو الزعيم على الصعيد الدولي. كما أنّ اهتزاز صورة فرنسا، في السنوات الأخيرة، شكّل معطىً إضافياً، ساهم في تعزيز جرأة الروس عليها، ففرنسا هي الدولة الوحيدة، في قائمة أعضاء مجلس الأمن المتمتعين بحق النقض، التي عجِزت عن التوصل إلى لقاح مضادّ لفيروس كورونا. وفشلت في حلحلة الأزمة اللبنانية، على الرغم من حرص الرئيس ماكرون شخصياً على تحقيق نجاح فيها، يعبّد الطريق أمامه للعودة إلى المشهد العالمي بعدما خفت بريقه.

فرضت روسيا سياسة أمر الواقع بأكثر من دولة أفريقية، فاستغلت لحظة انسحاب فرنسا من أفريقيا الوسطى، لتضع موطئ قدم في مركز القارة الأفريقية

تبقى مزاحمة روسيا لفرنسا، حد الإقصاء أحياناً، في حديقتها الخلفية، ببلدان القارّة السمراء أفريقيا، القشّة التي قصمت "ظهر" فرنسا، فحضرت معتمدة أسلوب القوة الناعمة، الممزوج بحسّ اندفاعي أحياناً، في القارّة الأفريقية، سيما في المناطق التي تناصب المستعمر العداء، وتجهر بمناهضة الوجود الفرنسي داخلها، مع الحرص الشديد على تلافي تكرار الأخطاء الفرنسية، وحتى الصينية أيضاً (دبلوماسية القروض). نتج عن ذلك تنوّع في آليات الوجود والاختراق، فجاءت في شكل تعاون عسكري وأمني، إذ تشارك روسيا في التعاون الأمني مع 19 دولة أفريقية. كما اتخذت صيغة دعم للقوى المعارضة للوجود الفرنسي؛ مدنية كانت أو سياسية أو حتى عسكرية. واعتمد، في أحيان قليلة، على الجماعات الأمنية الخاصة (مجموعة فاغنر).

تتجنّب موسكو النظر بعين استعمارية إلى الدول الأفريقية، ما يجعل الأطماع الروسية ذات طبيعة جيو سياسية، مختلفة عن الأطماع الفرنسية بأبعاد تاريخية استعمارية ثقافية. كما أنّ وفاء روسيا لمبدأ عدم التدخل؛ أي النأي بذاتها عن المشكلات الداخلية لبلدان هذه القارّة، واحترام سيادتها عند تعاطي الدول مع الأزمات المحلية، ناهيك عن تسويق روسيا نفسها دولة قوية مؤثرة، بفعل مواقفها النوعية على مسرح الأحداث العالمي، ضد أيّ قرارٍ يستهدف مصالح حلفائها داخل مجلس الأمن.

جعل ما سبق روسيا في مرحلة متقدّمة على الطرف الفرنسي، في ما يتعلق بتطوير علاقاتها مع بلدان القارّة، ففي الوقت الذي تعجز فيه فرنسا، على مدار سنتين (2020/ 2021)، عن تنظيم القمة الفرنكوفونية في تونس، استطاعت روسيا إنجاح القمة الروسية الأفريقية، أواخر عام 2019، بحضور 75% من الرؤساء الأفارقة (43 رئيساً من أصل 54)، في إشارة إلى ميلاد روسيا الجديد بأفريقيا. رقم يكفي الرئيس بوتين جواباً عن تصريحاتٍ فرنسيةٍ مفادها بأنّ "أفريقيا محجوزة ومشغولة مسبقاً ولا مجال لأحد آخر في الميدان".

يتعمّد بوتين، متى تعلق الأمر بالمناكفة والتنافس، التمرّد على البروتوكول، بالتفريط في الأدبيات والأعراف الدبلوماسية

على أرض الميدان، فرضت روسيا سياسة أمر الواقع بأكثر من دولة أفريقية، فاستغلت لحظة انسحاب فرنسا من أفريقيا الوسطى، لتضع موطئ قدم في مركز القارة الأفريقية. تحوّل سريعاً إلى صراع بالوكالة، بين أنصار موسكو وباريس، داخل مؤسسات الدولة، أدّى إلى إطاحة رئيس البرلمان، المحسوب على فرنسا؛ بتهمة استغلال السلطة وإساءة استخدام المال العام، في إشارة واضحة إلى النفوذ الذي تتمتع به روسيا داخل البلد. وتمكّنت، عن طريق مجموعة "فاغنر" من دخول تراب دولة مالي أواخر السنة الماضية، مستغلّة الانسحاب الفرنسي هناك، بعد الفشل الذريع لكلّ العمليات العسكرية التي تولت باريس تنفيذها، على مدار ثماني سنوات، بهذه الدولة تحديداً، علاوة على وجود سايدو كيتا المحسوب على موسكو في وزارة الدفاع المالية. ويرجّح أن تدخل إلى بوركينا فاسو قريباً، بعد الانقلاب العسكري هناك في 23 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني).

استناداً إلى ما سبق، يمكن فهم وحتى تفسير سلوكيات بوتين الغريبة وتصرّفاته في حضرة الرئيس الفرنسي ماكرون الذي كان يُمنِي بأيّ شيء من هذه الزيارة؛ بمقدوره توظيفه في المعركة الانتخابية الرئاسية على بعد أسابيع فقط، ما عدا هذا الهوان الذي جعل الأخير في مرمى نيران الأصدقاء قبل الأعداء.

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري