ربيع بغداد الذي لم يُزهر

09 ابريل 2024
+ الخط -

لا يمكن لمن عاش تلك اللحظات أن يمر مرور الكرام على تاريخ 9 إبريل/ نيسان، فهو تاريخ مفصليّ غيّر لا في حياة الفرد العراقي وحسب، وإنما في حياة المجتمعات العربية والإقليمية، ناهيك عن التغيرات التي أحدثها في المنطقة والعالم، فهي ليلة الاحتلال، ليلة دخول الجنود الأميركيين إلى بغداد. يومٌ حفرَ تفاصيلَه عميقاً في جدار ذاكرة العراقيين، ويبدو أنّه سيبقى كذلك، فلا مناص من التخلّص منه ومن تأثيراته التي تلازمنا بعد 21 عاماً على الواقعة الجلل.
لم نكن، نحن ثلّة من الصحافيين العراقيين، نقبل أن نصف ما جرى في ذلك اليوم من عام 2003 بأنّه يوم "سقوط" بغداد، كنّا نرفض ذلك الاصطلاح الإعلامي الذي نحته أناس لا يبدو أنهم عراقيون؛ إعلام أجنبي مستعرِب، أو غير ذلك. لكنّ المهم أنّ المصطلح لم يكن مستساغاً. كان مؤلماً إلى حد أننا كتبنا في صحفنا التي صدرت عقب الغزو عن أهمية أن يعي العراقيون خطورة المصطلح، خصوصاً أنّ بغداد، في اليوم الثاني لدخول قوات الاحتلال، نهضت سريعاً وأظهرت نفسها مدينةً مقاومة لا تقبل أن تُحتلّ، كنّا نقول إنّ بغداد لم تسقط وإنما دخلها الساقطون، بعض من ساسة اليوم وقادته وقتذاك ممن جاء بهم الاحتلال، كان يزعل من هذه العبارة، وزعله كاد أن يكلّفنا أرواح كثيرين منّا نحن معشر صحافيي ذلك الزمان؛ تهديدات بالقتل وملاحقات، حتى اضطر كثيرون منّا إلى الهجرة، هجرة البلاد أو هجرة صاحبة البلاط.

لم نكن نقبل أن نصف ما جرى في 9 إبريل بأنّه يوم "سقوط" بغداد

أتذكّر جيداً يوم بدأت أولى طلائع المقاومة العراقية بتنفيذ عملياتها، لم يكن قد مضى وقت على دخول الدبابات الأميركية إلى بغداد، ربما في اليوم التالي تحديداً، 10 إبريل، بدأت أولى تلك العمليات. يقول مؤرّخون إنّها كانت في الأعظمية ببغداد، ويقول آخرون إنّها كانت في مدينة بعقوبة شمال شرقي العاصمة. على أيّ حال، كانت أسرع مقاومة في التاريخ، فما هو إلا يوم أو ساعات حتى انبثقت طليعة مقاومة العراقيين للاحتلال.
وعلى ذكر هذه المقاومة، يحاول اليوم بعض ممن صفقوا للاحتلال وتعاونوا معه وركبوا سفينته، أن يصادروا التاريخ من خلال حديثهم عن "مقاومتهم". بعضهم يتحدث عن جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، وآخرون عن كتائب وفصائل أخرى ما كان لها من وجود يومها. الحقيقة والتاريخ أصعب من أن يزوّره هؤلاء، فجيش المهدي لم يكن لديه وقت لمقاتلة الأميركيين، وهو الذي تولّى بالتعاون مع مليشيات بدر التابعة لـ"المجلس الأعلى"، يومها، اغتيال الكفاءات العراقية، ومن ثمّ التحوّل لاغتيال العشرات من العراقيين بذرائع طائفية، قبل أن تندلع مواجهتهم الطائفية الأكبر عقب تفجيرات سامراء في عام 2006. وإذا كان بعضهم يتحدث عن المقاومة العراقية في النجف، وتحديداً في العام 2004، يوم خاض مقاتلو جيش المهدي التابع للصدر مواجهات ضد القوات الأميركية، فينبغي التذكير بأنّ تلك المقاومة ما انطلقت إيماناً بضرورة مقاومة المحتل، وإنما بعد أن حاولت قوة أميركية عراقية اعتقال مقتدى الصدر، بموجب مذكّرة اعتقال بتهمة قتل عبد المجيد الخوئي في عام 2003، ثم تطوّرت إلى مواجهاتٍ مسلّحة، ويمكن الرجوع إلى حديث مقتدى الصدر مع قناة الجزيرة عقب الغزو، ورأيه بالاحتلال ومقاومته، وهو الذي قال يومها إنّه لا وجود لفتوى بمقاومة الاحتلال.

كلّ شيء في هذا العراق يبدو وكأنّه على صفيح ساخن

اليوم، ولأن سوق المقاومة مطلوب إيرانياً بحجة دعم غزّة في صدّها للعدوان الإسرائيلي، فإننا نجد العشرات من العمليات المسلحة التي كانت تنفذها المقاومة العراقية في مناطق عدة من العراق عقب الغزو الأميركي تزوّر وتنسب إلى فصائل لم تكن موجودة أصلاً في ذلك التاريخ، ما عدا جيش المهدي طبعاً، وهنا نقول ونردد دائماً بأنّ النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستجيرة، شتّان بين من أخذته حميته الوطنية والدينية والقومية لمقاومة المحتل، ومن كان ينتظر تعليمات تأتيه من خارج البلاد؛ يقاوم أو لا يقاوم. 
عموماً، ها قد مضت 21 عاماً على الاحتلال الذي غيّر وسيغيّر أكثر وجه العراق والمنطقة، مضت تلك السنوات وما زالت العملية السياسية، التي فصّلتها الولايات المتحدة عند الخياط الإيراني، لا تستوعب الجسد العراقي المثقل بكثير من الأزمات، ولا تليق به، بل وفي كثير من الأحيان تظهر تشوهات وتقرّحات عقدين من الغزو والاحتلال. ليس من السهولة بمكان عمل جردة حساب لما يعانيه العراق اليوم من مشكلات، يكفي أن نعرف أنّ كلّ شيء في هذا العراق يبدو وكأنّه على صفيح ساخن، عمليته السياسية هشة، استقرار أمني محكوم بتوازنات داخلية وخارجية، اقتصاد ريعي يعتمد على النفط فقط، ولا شيء غير ذلك، أكثر من 72 مليشيا مسلّحة مُشرّع وجودها بالقانون، قطاع الصحة، التعليم، الخدمات، ملف النازحين، ملف العلاقة بين بغداد وأربيل، ملف المناطق المنزوعة السكان، وأكثر من هذا كلّه وذاك، وأصعبه، ملف سيادة البلاد، يكفي أن تعلم أنّ قادته يصرّحون علنا أنهم ينتظرون تعليمات المرشد الإيراني في الردّ على إسرائيل.
فعلا هو ربيع لم يُزهر يا بغداد! ربيع أصبح بحاجة إلى ربيع، عسى أن يصنعه هذه المرة أهل العراق لا أن يأتيهم من خارج الحدود.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...