راهن الصورة الوحشية لتاجر البندقية

20 فبراير 2024
+ الخط -

كلّما استشكل عليك، أيها التلميذ المفعم بالفضول وحبّ المعرفة، فهم موقفٍ ملتبس، أو سبر غوْر حالةٍ ما، وكلما استعصت عليك قراءة ظاهرة غامضة بصورةٍ صحيحة، اذهب إلى المعلّم الأكبر، قف بين يدي التاريخ بلا تردّد، اطرُق باب رواقه الواسع بأدبٍ جمّ، ثم ادخُل عليه بلا تردّد، واطرح، أيها التلميذ الفتى، ما شئتَ من الأسئلة الحائرة، وثق أنّ لدى الشيخ الجليل القول الفصل وعنده الإجابة الشافية، إذ في وسعه، على أقل تقدير، عرض النصيحة الثمينة بلا مقابل، وتقديم قبس كاف من الرشاد والهداية الموصلة إلى ضفاف الحقيقة المنشودة.
وهكذا، كان على التلميذ الفتى أن يرجع إلى المعلّم الأكبر لاستنطاقه والتحقّق من صواب اعتقاده، بعدما شقّ عليه فهم بواعث هذه الوحشية المتمادية، والكشف عن جذورها التاريخية لدى مجتمعٍ تجتاحه رغبة انتقامية جامحة لمحو غزّة عن الخريطة، وإبادة شعبٍ وسحق كل مقوّمات حياته، ومقارفة ذلك كله بالصوت والصورة، من دون أدنى التفاتٍ إلى عقابيل إعادة إنتاج صورة إجراميةٍ لأدعياء دولة "الناجين" من المحرقة النازية، أو التحسّب قليلاً لما قد يعيد القتل الجماعي إنتاجه من مظاهر كراهية، وردود فعل غاضبة ربما تؤسّس لإعصار أشد هولاً من موجة "اللاسامية".
إذا كان من الصعب الغوص عميقاً في مرويات التاريخ السحيق من عهد يوشع بن نون، وجلاء بعض صفحاته العتيقة، لتقصّي أسباب تعرّض أصحاب الديانة التوحيدية الأولى إلى السبي مرّتين متتاليتين، إلى بابل وبلاد آشور، ونفيهم مرة ثالثة إلى شتى بقاع الأرض عام 70 ميلادية في زمن روما، إلا أنه كان من المتاح العودة، في المقابل، إلى مدوّنات مكتوبة وأرشيفات غير بعيدة، عمرها نحو ستة قرون، من أجل تفحّص أسباب ما وقع لهذه العرقية المكروهة من اضطهاد ونبذٍ وسبيٍ وتمييز، على أيدي مختلف الأمم والأقوام، على مرّ العصور، بما في ذلك عصر المحرقة النازية.
وأحسب أن شخصية شايلوك، وهو أشهر المرابين الأنذال في التاريخ، تلك التي نمنمها أعظم الشعراء الإنكليز وليم شكسبير في أواخر القرن السادس عشر، من خلال مسرحيته الخالدة "تاجر البندقية"، شخصية لا تشفّ فقط عن سيماء مُتاجرٍ بالمال، جشع ولئيم وجبان، وإنما تعكس أيضاً مناخاً أوروبياً سائداً، وتصوّرات ذهنية شائعة، وواقعاً اجتماعياً قائماً في مرحلة ما قبل الثورة الصناعية، بشأن الأقليات اليهودية، المطرودة من بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وغيرها من بلدان القارّة البيضاء، تلك الأقلية التي تجمّعت ثم عُزلت وراء أسوار عالية في إقليم لامبورديا الإيطالي وغيتوهات شرق أوروبا، وعاشت منبوذة ومُهانة، بفعل ما شاع عن سلوكها المثير للارتياب والاشمئزاز.
ولعلّ هذه الصورة الذهنية السقيمة، التي تكوّنت على مر الزمان لدى عامّة الأوروبيين، عن الأقليات اليهودية في بلادهم، كانت بمثابة الأرض الخصبة التي نمت عليها في ما بعد مظاهر العنصرية والكراهية، وربما هي التي أسّست، لاحقاً، للأفكار الفاشية السوداء، والعقيدة النازية ذات الشعارات الاستئصالية، تجاه أحفاد يوشع، وأبناء عمومة شايلوك، ذاك المرابي الذي كان قد أصرّ في حينه على اقتطاع رطلٍ من لحم تاجر إيطالي عجز عن سداد قرضه، فبنى شكسبير على هذه الواقعة المعبّرة عن مخيال اجتماعي عام، معمار مسرحيّته هذه.
مرّة قبل سنين عديدة، وقف أحد أدلّاء السياحة يشرح لزائري متحف "الكارثة" في القدس الغربية، بعض مجريات ما حدث لليهود في ألمانيا النازية، ثم توقف قائلاً إن مفكّريهم لم يجدوا سبباً مقنعاً لارتكاب تلك المذبحة، سوى حسد الألمان وغيرتهم من عبقرية العقلية لليهودية وتفوّقها، بدليل أن أغلبية الحاصلين على جائزة نوبل للعلوم المختلفة، حتى ثلاثينيات القرن العشرين، من هذه الأقلية المنتشرة في دول الغرب، ولم يسأل ذلك الدليل نفسه عما توارثه الأوروبيون من كراهيةٍ وارتياباتٍ ممتدّة منذ عهد الملك الكلداني نبوخذ نصر.
ومن غير أن نفتح المزيد من الدفاتر القديمة، إلى جانب دفتر تاجر البندقية، تكفي مراجعة سريعة لمجريات حرب الإبادة في غزّة، كي نتعرّف إلى البواعث العمياء وراء هذه المذبحة التي تُقلّد فيها ضحية الأمس جلّادها النازي، وندرك أن مصدر كل هذا الشرّ المستطير نابع من نفسيةٍ تجرّعت، على مدى تاريخها المديد، الذلّ والهوان، ومرارات الاستصغار والانكسار، فلمّا تمكّنت من الإمساك بعنصر القوة الحربية، أخذت تنتقم لنفسها بجنون، حتى وإن أدّى ذلك إلى وقوفها وحيدة في وجه العالم كله.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي