راكب واحد فقط بجانب المذيع

19 يناير 2023
+ الخط -

لا يمضي أسبوع إلا وتقوم إحدى عدسات وسائل التواصل الاجتماعي، أو القنوات التلفزيونية، بمكرمةٍ من مكارمها، فتصوّر لنا خبرًا عن طفلة سورية أو طفلتين تبكيان من البرد، والبرد جلّاد يجعل المجلود يبكي، فله سياطٌ غير مرئية، والحياء يبكي أيضًا.

يصوّر المراسلون أمًّا سورية أو عجوزًا برزت عظامها من جلدها من شدّة الجوع، وقد خرج رأسها من الخيمة كأنما خوفًا من قنص أو عين، والخيمة ممزّقة، تتكلم العجوز وكأنها في النزع الأخير، فتقول إنّ الطعام الذي تتناوله هو الدواء! يحاول الخبر المصوّر أن يستثير نخوة المعتصم، فتلامس أسماعنا ... لكنها لا تلامس نخوة المعتصم.

وصيّادو الخيرات وعمّال الكاميرات يختارون الأطفال الحِسان، صُبح الوجوه، وكل الأطفال حسان، ويجدّون في صناعة الصورة وتدبيج التقرير، أمّا الأمهات النازحات فسوء حالهن ينبيك عن مقالهن. لكن مراسلًا اتّبع المذهب البوليودي في التصوير، والأمر لا يحتاج إلى صناعة ومبالغة في الإخراج حتى لا يرتاب المشاهد، والهند هي قارّة المآسي، ومتحف الديانات والكوارث أيضًا، لكن السينما الهندية لا تصوّر إلا قصة نمطية شائعة، حتى ضُرب بها المثل، فيقال عن القصة السيئة معروفة الخواتيم: فيلمٌ هنديّ. وكان أحد المراسلين قد طلب من طفلةٍ سوريةٍ أن تستدير وتلتفت إلى الكاميرا، على الطريقة الهندية، حتى تؤثر في المشاهد العربي الذي تصخّر قلبه من كثرة المذابح والمجازر والنازحين.

وكانت مخيمات النازحين فلسطينية حصرًا قبل ثلاثة عقود، ولا تظهر إلا في الأناشيد الوطنية أمثال أغنية "سورية يا حبيبتي"، والأفلام الوثائقية، ثم انتشرت المخيمات بين الشعوب العربية. وأمس، كنت أقرأ كتاب "بورتوريهات" للكاتب السوري محمد كامل الخطيب الذي كان يعدّ العدّة للهجرة إلى فرنسا، وقادته الأحوال إلى السفر إلى مصر، وكان ذلك في أواخر الستينيات، فشاهد مشهدًا جعله يغيّر رأيه ويعود إلى سورية، وكان المشهد رؤية مصريين ينبشون في القمامة بحثًا عن الطعام! ولعله كان يظنُّ أن صورة مصر هي صورتها في أفلام إسماعيل ياسين الظريفة، وقصص أفلام الممثلة هندية الأداء ماجدة، التي تمثل وكأنها سكرانة بالحبّ والأسى، والتي حذت حذوها أمس المذيعة منى العمدة في برنامج حواري.

وقد بكت مذيعة "الجزيرة مباشر" حياة اليماني، ودموع الإعلاميين والمشاهير ثمينة، وهي كثيرة المحصول العاطفي، وشديدة التأثير الإعلامي، وكانت قد بكت لتقرير أرسله مراسلها علاء الحاج يوسف عن الطفل المقرور من البرد في الخيمة، فألجمه عجز التعبير، أو قلة الحيلة عن متابعة التقرير، وكان يقابل طفلًا سوريًا يتدثر بغطاء لا يُغني من برد، في خيمةٍ ليس فيها نار، وهو حقًا مشهدٌ يفطر القلب حزنًا، ويبادر محسنون بعد مشاهدة الفيلم إلى إغاثة النازحين المقرورين من البرد ببعض الحطب والطعام والدثار، وسوى البرد هم يعانون من الجوع والحرمان من المدارس والدواء.

وأكد "فريق منسقو استجابة سورية" في مطلع ديسمبر/ كانون الأول الماضي (بات لفقر سورية تنسيقيات) ارتفاعَ نسبة المخيمات التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي لأكثر من 83%، في مناطق شمال غربي سورية. وقالت تنسيقية أممية إنّ سورية تحتاج إلى مئتي مليون دولار، تجنبّا لحدوث كارثة غذائية، أي تحتاج إلى ما يعادل أجر اللاعب رونالدو في عقده الجديد.

وقد انتبه المراسلون، فتحوّل بعضهم إلى مخرجين، فعلّموا الأطفال ودرّبوهم على أداء بعض الحركات التي لا يحتاجونها، وهم في غنىً عنها، فهم ينتقون الأطفال من أجل التأثير، لكن المراسل يقتصر عادة على طفلٍ واحد أو طفلين، أو سيدة، أو أسرة واحدة، وأمثالهم بالآلاف.

واحد فقط بجانب السائق من أجل راحة "السائق" وسلامة المركبة، وحسن التأثير، ومراعاة القوانين الدولية. لو عمل مرسل الخبر الحزين حركة "زووم آوت"، ونظر أسفل قدمه، لوجد أن المخيم كله أيتام وثكالى.

الكثرة (كثرة الأعداء) تغلب الشجاعة، وكثرة الهموم تُميت القلب.

أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر