رئاسيات لبنان ونواب الفراغ
مراقبة الجلسات المتتالية غير المجدية لانتخاب رئيس جديد للبنان، أشبه بتطبيق حرفي لعبارة أينتشاين: "الغباء هو فعل الشيء نفسه مرتين بالأسلوب نفسه وبالخطوات نفسها وانتظار نتائج مختلفة". ترى النواب وهم يحضرون إلى الجلسات، التي بلغ عددها خمسا، كمن يمرّر وقتاً ضائعاً بين جلسة وأخرى، سواء باسم الديمقراطية أو باسم اللعبة البرلمانية.
في الحالتين، يكرّس هذا الفعل حقيقة سياسيين هم بعيدون عن السياسة بمفهومها العصري، كحركية إنقاذية تطوّرية لمصلحة المجتمع. انظروا فقط إلى وجوههم وسلوكهم، لا الذي يتوجهون به إلى وسائل الإعلام ولا الذي يسوّقون فيه أنفسهم بصورة ضاحكة أو بابتسامة تصطنع العفوية. سترون أن ليس على أيدي هؤلاء خلاص مجتمع وانتشال الناس مما هم فيه. عادةً، يقوم القائد بفعل ما ويتقدّم الصفوف، ناقلاً مؤيديه إلى محطاتٍ مختلفة في الأداء والتفكير. وهي بطبيعة الحال محطّات نموّ في المفاهيم البديهية للحياة المجتمعية. لكن لا، تجد النواب كمن يستلذون حقيقة بشعة، فحواها أنهم فارغون من الداخل، ولا يخطّطون لمدى أبعد من انتظار اتصال لدعوة على العشاء، أو رحلة خارجية باسم "الراحة من هموم الشأن العام". هذه حقيقة، لا يمكن إخفاؤها، فمن يريد التصرّف فعلاً كسياسي أو سياسية لا يفترض به اتّباع ذهنية سالفة حكمت لبنان.
الأفظع أن الجلسات ستستمر وستبقى على فراغها، حتى يحلّ موعد تسويةٍ ما. حسنا، ما دمنا نعرف أن التسوية حاصلة، ونعلم أنها ستُفرض على النواب، وندرك أنها ستُفضي إلى انتخاب رئيس، فلم لا نختصر الزمن، ونفعلها سريعاً؟ أبداً، هناك "بريستيج" يجب الحفاظ عليه.
صحيح أن انتخاب رئيس للجمهورية لن يحلّ أزمة لبنان في غضون أيام وأشهر، بل يحتاج، وفقاً لما هو معروف، إلى تشبيك داخلي وخارجي في آنٍ لتمرير معالجاتٍ ما، لكن الصحيح أيضاً أن أي رئيس عتيد لن يتمكّن من الاستمرار بفعل الأشياء نفسها التي فعلها أسلافه. ولا يتعلق الأمر بصراع طائفي أو مناطقي، بل حصراً بطبيعة الحركية التاريخية. فقد انكسر شيء ما في لبنان منذ ثلاث سنوات. الجميع يعلم ذلك، لكنهم يرفضون الإقرار بالأمر، معتقدين أن "الموجة" مهما علت فإنها ستنزاح عن الشاطئ، غير أن القصة لا تتعلق بموجة، ولا بكرة ثلج، بل بحقيقة واضحة: هناك شعبٌ لا يحصل على الحد الأدنى من حقوقه، في مقابل تركّز ما تبقى من ثروة بيد قلّة. ومن يظن أن الأمر هكذا كان وهكذا سيبقى لديه مشكلة في فهم طبيعة المجتمعات، حين تصل إلى نقطة اللاعودة.
لن يتآلف شعبٌ مع ما يعانيه من مصاعب، فالصبر في حالات الجماد وانعدام الأفق غير ممكن وفقاً للمفاهيم البشرية. وطريقة منح الفُتات لا تجدي نفعاً على المديين القصير والمتوسط. هل يعني هذا أن شعباً سينتفض في لحظة محورية؟ أيضاً ليس بالضرورة أن تكون الأمور هكذا. قد تشتعل شرارة عفوية ما، تفضي إلى تتالي أحجار الدومينو، ويتحوّل معها من يرقص على أنغام الرتابة في انتخابات الرئاسة، ومن يتغنّى بزعيم منحه القليل من الكثير، إلى هدف لأشخاص لم يفكّروا يوماً أنهم سيُقدمون على فعل ما سيفعلونه في حينه.
ولاحقاً، حين يُنتخب رئيس للبلاد، سيتمهّل اللبنانيون قليلاً، ويرون أن كل ما حصل في السنوات الماضية لم يكن قدراً ولا حتمية، بل سلوكيات لمسؤولين في مواقع السلطة، تصرّفوا بمنتهى الأنانية، لإيهام الناس بحريتهم السياسية، وهم ليسوا سوى بيادق في لحظة تقاطع المصالح والقرارات الخارجية. هذا كله لا يهم، المهم أن نواباً تنقّلوا بسياراتهم واستهلكوا وقوداً من أموال الشعب، وكأن ثمن صفيحة البنزين شبه مجاني في لبنان، وبدوا غاضبين أمام الكاميرات ثم صعدوا إلى سياراتهم وعادوا إلى منازلهم، على أن يلتقوا بكم عبر الشاشات الأسبوع المقبل في مثل هذا الوقت، بثيابٍ جديدة وألقِ لا يذبل.