رؤساء سورية القادمون
مع بداية الانتفاضة السورية، في مثل هذه الأيام قبل 12 سنة، بدأت مخيلةُ الشارع المنتفض تخترع رؤساء لسورية التي كانت أحوالها توحي بأنها على وشك التخلّص من نظام الوريث بشار الأسد، وفي ما بعد، تبيّن أن تلك الإيحاءات مخادعة. برهان غليون من أوائل الذين رُشحوا لهذا المنصب، وكان مجرّد ذكر اسمه ينزل في نفوس المنتفضين كما السمن عندما يقطُر على العسل. فهو مدني، مثقّف، أكاديمي، هادئ، معارض، والأهم من هذا كله أنه "سني"، ففي رأي غالبيتهم أن حكم الرئيسين "العلويين"، حافظ وبشار الأسد، قد جرّ على البلاد، خلال أربعين سنة، ما جرّ من كوارث وويلات وظلم، بل وإجرام.
يومئذ، كان التفكير بتعيين رئيس جمهورية، على ذلك النحو الاستباقي، مقبولاً، ومسوّغاً، لأنّ الانتفاضة المستعرة كانت تقبل أي تغيير نحو الأفضل، مهما كان ضئيلاً. ولا شك في أنّ أي سوريٍّ يأتي رئيساً سيكون أحسن من بشار. لكنّ المعضلة الأساسية أننا، حتى نحن أبناء الطبقة الوسطى الذين شاركنا في الانتفاضة، لم نفكّر، في غمرة تلك الأحداث العاتية، بأنّ مشكلة سورية ليست بالرئاسة، ولا ببشّار الأسد شخصياً، بل بالنظام الأمني، الفولاذي، المتحالف مع الجيش الذي أسّسه حافظ الأسد، وبقي ثلاثين سنة وهو يعمل على اختيار أكثر الضباط ولاءً له ولأسرته، ويضعهم في المراكز القيادية الحسّاسة، وبشّار سار على نهج والده بالطبع، ليقينه بأنه لم يوضَع في سدّة الرئاسة بسبب مؤهلاته الطبية، بل ليكون رأساً للسلطة الفولاذية التي أسّسها والده. وللتذكير، أطلق الرفاق البعثيون على الجيش السوري صفة "العقائدي"، لكونه غير مختصٍّ بحماية حدود الوطن، بل بالدفاع عن "العقيدة" الحزبية البعثية التي أخذت تتماهى، منذ 1970، مع شخص الرئيس، وترسانته الأمنية.
كان حرياً بنا أن نعمل على تحويل الانتفاضة إلى ثورة، فنضع لها شعاراتٍ وأهدافاً واضحة، ذات قيمة، كأنْ نحدّد اسم الدولة التي نريدها، وطبيعة النظام السياسي الذي نسعى إلى تأسيسه، ونؤكّد لأنفسنا وللآخرين أنّ نظامنا يضمن التداول السلمي للسلطة، والمساواة بين المواطنين، ويحترم حقوق الإنسان، بعيداً عن الشعارات الإنشائية الاعتباطية التي أخذنا نردّدها دونما تفكير، مثل "ثورة الحرية والكرامة"، أو "الشعب السوري ما بينذلّ" أو "يا بثينة ويا شعبان الشعب السوري مو جوعان"...
ليس من الحكمة أن نناقش، الآن، إن كان مَن يمتلك صفات إيجابية، كبرهان غليون، قادراً على إدارة دولة مكتظّة بمراكز القوى الطفيلية، يعشّش فيها الفساد، وتصول فيها المافيات، وقطعان الشبيحة، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأخ معاذ الخطيب الذي أصبح مقبولاً أكثر، لأنّه شيخٌ، سنيٌّ لكنّه غير علماني مثل برهان... ولكنّ هذه المرحلة مرّت، من دون سلام طبعاً، والثورة تسلحت، وتأسلمت، وتَفَصْلَلَتْ، أي تشكلت فيها فصائل جهادية متناحرة، وتدخّلت إيران، وحزب الله، وروسيا، وأميركا، وتركيا، ودخلت مليشيات شيعية لتقاتل مع النظام، وأخرى سنّية مجاهدة، وتدفقت مئات الألوف من الدولارات، على أشخاصٍ كانت جيوبهم بالية، وممزّقة من فرط ما فتشوا بأيديهم فيها على خمس ليرات سورية، من دون جدوى، ودخلت القضية في تعقيداتٍ لا يمكن لأحدث الكمبيوترات الحديثة أن تستوعبها. ومع ذلك، بدأ الأشخاص الذين يرشّحون أنفسهم لرئاسة سورية يتكاثرون مثل بذور البقلة، والناس الغلبانون الذين أُخرجوا من بيوتهم، وأُلقوا في الخيام، يتساءلون، كلما طلع لهم مرشّح رئاسي: هذا "العينتين" مرشّح نفسه للرئاسة بمناسبة شو؟ هل تخلّى بشّار عن السلطة ونحن نيام؟ ولنفرض أن هذا المرشّح "المسطول" دخل في منافسة مع بشّار الأسد، ألن يصبح أضحوكة للقاصي والداني؟ ولنفرض أنّ أقصى الاحتمالات غرابةً قد تحقّق، وصار هذا المسكين رئيساً لسورية؟ ماذا سيفعل؟ وكيف سيتصرّف مع هذه التركيبة التي ما فتئ أفرادها يتبارون في مَن سيكون فاسداً أكثر من رفيقه؟