ذو الهمّة شاليش .. درس في الإبداع
إذا قلتُ لك، عزيزي القارئ، إنني سأعطيك الآن درساً في الإبداع القصصي، فإن الإنصاف يتطلب منك ألّا تستعجل الحكم عليّ، وتتهمني بالتذاكي، والتعالُم، والأستذة.. فأنت تعرف أن المعلم/ الأستاذ ممكن أن يعيش عمراً طويلاً، ثم يسند رأسه ويموت، من دون أن يبلغ ربعَ شأن أحد تلامذته. هل كان لفيلسوف الشعراء، أبي العلاء المعري، معلمون؟ طبعاً، وبالتأكيد، ولكن هل يذكرهم أحد؟ أو يذكر معلّمي الجاحظ؟ أو الشخصَ الذي عَلَّم أستاذَنا يوسف إدريس كتابة القصة؟ يستطيع الواحد من هؤلاء العباقرة، برأيي، أن يضع معلميه في جيبه الخلفي، مع فائق الاحترام.
نأتي الآن إلى الدرس. إذا قيل لك، اكتب لنا قصة، أو رواية، أو حكاية بطلُها المرافق الشخصي لحافظ الأسد، ذو الهمّة شاليش، الذي توفي في منتصف شهر مايو/ أيار الحالي، ماذا تفعل؟ أو ما هي الخطوات التي يجدر بك أن تتبعها، لتحصل على نص ناجح؟ المسألة بسيطة للغاية. تذهب إلى "غوغل" الذي أصبح، في هذه الأيام، دليلاً للحائرين الذين أجبرتهم الظروف على العيش بعيداً عن مكتباتهم. تقرأ بعض المعلومات عن الرجل المتوفى. تجد أنه من مواليد القرداحة، سنة 1956، وكان مرافقاً مخلصاً لحافظ، وقد جاء في ورقة نعيه أنه عاش 66 سنة، قضاها كلها (بالتقى والورع والصلاح). يمكننا القول الآن إنك أمسكت برأس الخيط، فهذه المعلومة تكفيك، وتغنيك عن استكمال البحث، فإذا أصررتَ على متابعة جمع المعلومات، يكون حالُك مثل حال الشمّاس الذي سأله القسّيس عن سبب عدم قرعه جرسَ الكنيسة في موعده، فقال له: هناك عشرة أسباب، يا أبونا، أولها أن الجرس معطّل، وثانيها.. فقاطعه القسّيس: لا تكمل. فهذا السبب يكفي.
تبدأ، الآن، الكتابة، بسهولة ويسر، فتقول: معروفٌ عن حافظ الأسد أنه كان يرتاب في كل مَن حوله، حتى المقرّبين. وهذه نقطةٌ مفيدةٌ لصناعة التشويق الدرامي. الآن تكتب أن حافظاً كان يقف، ذات مرّة، وراء الميكروفون، و"ذو الهمّة" واقف وراءه كالعادة.. كان يتحدّث عن الديمقراطية المطبقة في الجمهورية العربية السورية، وفجأة التفت، فوجد شفتي ذو الهمّة تتحرّكان، فارتاب في أمره، معتقداً أنه قد ركّب، في مكان ما من جسمه، جهازَ تخابر مع جهةٍ أجنبية. اقشعّر بدنه، وما عاد يعرف كيف ينهي موضوع الديمقراطية، وما عاد يهمّه إن اقتنعت الجماهير الكادحة بالنموذج الديمقراطي السوري الذي وصفه وليد المعلم بأنه غير مسبوق أم لا. قال عبارة أخرى، ضمن سياق موضوع الديمقراطية الأسدية، وتعمّد الالتفات، على نحو مفاجئ، إلى الخلف، فوجد ذو الهمّة ما يزال يحرّك شفتيه، فتوقف عن الكلام، واستدعى نائبه المخلص، عبد الحليم خدّام، الذي لقبه مظفر النوّاب بـ "الهدهد"، وهمس له بأنه يريد أن يستعين بمرافقيه الشخصيين إلى حين وصوله إلى القصر، وأشار بعينيه لشقيقه رفعت الذي كان بين الحضور، فاقترب منه، وقدّم له أذنَه، فهمس له: خذ مرافقي "ذو الهمّة" واسبقاني إلى القصر.
وكان رفعت، كما يعلم القرّاء الأكارم، من النوع الحقير، فلم يمتثل لأوامر شقيقه، بل تصرّف من تلقاء نفسه. أنزل ذو الهمّة إلى قبو الصالة التي يُقام فيها المهرجان الخطابي، وبتفتيشٍ دقيق لجسمه، وتحقيق سريع، وسهولة بالغة، فهمَ القصة كلها، وهي أن ذو الهمّة كان يمضي وقت وقوفه وراء الرئيس بالاستغفار، باعتبار أنه إنسانٌ تقي، وورع!
يمكنك هنا، عزيزي المتمرّن على الكتابة، أن تجعل حافظ الأسد، خلافاً للعادة، ينزل، بعد الانتهاء من شروحاته عن الديمقراطية، إلى دورات المياه، ومن فرط إخلاص ذو الهمّة لرئيسه، يلحق به إلى هناك، وبينما هو واقفٌ خلفه، ينتظره حتى ينتهي، إذ وقعت عيناه على حنفية تنقّط، فصاح تلقائياً: انظر، أيها القائد المفدّى، إنهم يخالفون تعليماتك. هذه الحنفية تنقّط.