ذاك الفتى الأميركي النبيل

05 مارس 2024
+ الخط -

من المرجّح أن كثيرين بين ظهرانينا، ممن تناهت إلى أسماعهم واقعة إشعال جندي أميركي النار في بدنه، تضامناً مع الغزّيين المتروكين وحدهم يواجهون أقدارهم العمياء، واحتجاجاً على مشاركة بلاده في حرب الإبادة الجماعية الجارية في القطاع المدمّر، نقول إن من المرجّح أن هؤلاء قد أذهلتهم هذه السابقة التضامنية غير المسبوقة، كونها أميركية في المقام الأول والأخير، بادر بها رجلٌ بعيد عن غزّة بعد السماء عن الأرض، وهو ما رفع درجة الفضول، وألهب الأسئلة إزاء منبع كل هذا القدر الهائل من التعاطف اللامحدود، من فتى أميركي مترع البياض، مع قومٍ لا يتحدّث لغتهم، ولا يدين بدينهم، ولا يشبهونه أو يشبههم، وربما لا يعرف واحداً منهم.
أحسب أن بعضاً بيننا قد انتابته، بعد الاستماع للتفاصيل، مشاعر الأسى لخسارة فتى نبيل يحبّنا إلى هذا الحد، وأن آخرين قد غمرهم قدر من الرضا، قائلين لأنفسهم: حسناً هناك بعد في بلاد جو بايدن من يهتم، فيما بعض ثالث راح يداري خجله، ليس بما فعله فني البرمجة في سلاح الجو الأميركي، آرون بوشنيل، وإنما بما لم يفعله عشر أعشاره الأقربون، وهم الأوْلى دائماً بالمعروف، الأمر الذي رفع لدى الكثرة الكاثرة الحسّ الثقيل بالذنب والشعور العميق بالتقصير، وربما استذكر عامّة الناس فعلة التونسي محمد البوعزيزي، الذي حين أشعل جسده أشعل الحريق الممتدّ من الماء إلى الماء.
قد يحارُ المرء في تفسير موقف بوشنيل الإيثاري العظيم، ويعجز عن تعليل كل هذا السخاء بالنفس من دون مقبل، إذا لم يعتمد سلطة المشاعر الإنسانية التي وقفت وحدها وراء تضحية آرون بنفسه، وتقديم جسده قرباناً بشرياً عن طيب خاطر، للفت الأنظار إلى ثالوث الكارثة المستمرّة في غزة (موت وجوع وأوبئة) بسلاح أميركي، غير أن الغاية الأسمى من وراء ذلك كله كانت على الأرجح حثّ بني جلدته في الدولة العظمى الوحيدة على مضاعفة معارضتهم وإعلاء صوتهم الاحتجاجي ضد مساندة إدارة بايدن دولة الاحتلال، وضد المشاركة في هذه المقتلة الكبرى المنقولة على فضاء البثّ المباشر.
بغرض الوقوف على مدى رهافة الحسّ الإنساني النبيل لدى هذه الأيقونة، وملامسة نبض الرجل وفهم غايته الحقيقية أكثر، تحسُن بنا استعادة الكلمات البسيطة القليلة التي قالها بوشنيل، وهو يقف أمام سفارة دولة الاحتلال في العاصمة واشنطن، فقد أبلغنا آرون، نحن مشاهديه عن بعد بعيد، "أنا جنديٌّ في الخدمة الحالية في القوات الجوية الأميركية، أقول إني لن أشارك بعد الآن في الإبادة الجماعية، سأنظّم الآن احتجاجاً عنيفاً للغاية، لكن احتجاجي لن يكون كبيراً بالمقارنة مع ما يعيشه الفلسطينيون على أيدي مستعمريهم". وفيما راح صراخه يعلو من شدة الحريق والألم، ظلّ آرون يهتف بأعلى صوته "فلسطين حرّة فلسطين حرّة" وبقي كذلك إلى أن أكلت النار حنجرته.
مهما بدت هذه الواقعة العنيفة استثنائية وخارجة عن مألوف اليوميات الأميركية، إلا أنها تظل علامة فارقة أخرى من علامات التحوّل العديدة، الجارية، ليس في الأروقة الدبلوماسية وقنوات التلفزة العملاقة، وإنما عبر المظاهرات وشبكات التواصل، والتحرّكات الجارية تحت سطح الحياة السياسية في البلد الذي كان حتى الأمس القريب ساحة مغلقة على لاعب واحد، أي إسرائيل، التي كانت تلعب فيه من دون منافس، وتستمدّ من فائض السلاح والمال والتغطيات السياسية كل ما طالت يدُها الطويلة، إلى أن ارتكبت دولة الاحتلال جريمة الإبادة الجماعية، وتفوّقت على نفسها في الإجرام والوحشية، وهذا هو المتغيّر الذي يمكن التعويل عليه في المستقبل، وربما هذا هو ما راهن عليه بوشنيل.
وبقدر ما يحقّ للواحد منا التساؤل عن المدخلات المعرفية والثقافية والقيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية التي تضافرت، معاً، وكوّنت السلطة الضميرية لدى بوشنيل، ثم شكّلت وجدانه على هذا النحو الشفيف الرهيف الرقيق، بقدر ما يحقّ لنا جميعاً طرح الأسئلة المقابلة، عن الكيفية التي تجرّد فيها أناس من لحمنا ودمنا من أدنى مشاعر الإنسانية، وكفّوا عن كونهم من الآدميين، ويزيد من حراجة الموقف أكثر، وتنغلق عليك كل إجابة ممكنة، عندما تستمع إلى واحد من هؤلاء، يتحدّث لغتنا وينهل من معين ثقافتنا، وينتمي لأرومتنا، وهو يطالب غزّة علناً بتقديم التنازلات، ويهدّد بتأديبها إن لم تفعل. أما الأدهى والأمرّ، فتلك الببغاوات التي تستعير لسان الليكود وبن غفير، وتشنف آذان مستمعيها بدفقٍ من الكلام الذي تفوح منه الروائح الكريهة، أقلها رائحة الخيانة والعياذ بالله.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي