ذاكرتنا التي من ورق
يكاد لا يجد العائدُ إلى بيروت اليوم، أو المتجوّل بين جنباتها، أفضلَ من هذا العنوان "ذاكرةُ مدينةٍ من ورق" الذي منحه الفنانُ اللبنانيّ ألفريد طرزي (1980) لمعرضه القائم حالياً في فضاء "هنغار" التابع لجمعية أمم، لتوصيف الحال الذي بلغته العاصمة اللبنانية ومن خلفها، كلُّ البلاد، وكأنّما بيروت هي العقدة أو الحبّة التي يبدأ منها انفراطُ العقد وتفكّكه وانصرافُه حبيباتٍ تجري في الاتجاهات كافة. في إهداء، كتب طرزي أنّه "بيان للحرّية والثمن الذي غالباً ما يُدفع مقابلها. هذا المعرض هو أيضاً تكريم لرجل ولإرثه وعمله ومسيرته التي سنواصل باسم الحرية، دون مكان للخوف في قلوبنا". والمقصود هنا هو لقمان سليم الذي اغتيل بسبب فكره وحرّيته، ولكن أيضاً كلّ الذين سبقوه من صحافيين ومفكرين ومناضلين من أجل الحقيقة والحرية، ممّن أُهدرت حيواتهم دفاعاً عن حق أو قضية أو حلم ما، وممّن تزخر بأسمائهم أغلفةُ المجلّات وصفحاتُ الجرائد والملصقات والصور رسوم الكاريكاتير التي تحوّلت في المعرض ملصقاتٍ ومجسّمات، من أمثال نسيب المتني وكامل مروة وسليم اللوزي ورياض طه وسمير قصير وجبران تويني، ناهيك بضحايا سلاسل الاغتيالات السياسية والتفجيرات والمجازر، إلخ.
واستخدام كلمة الذاكرة هنا لا بدّ أن يُحيلنا إلى غيابها، لا إلى حضورها، وأن يُذكّر اللّبنانيين بأنّ النسيان الذي يبجّلونه ويرفعونه عنواناً لمقاومتهم وصلابتهم ورغبتهم بمحو كلّ ما ألمّ ويلمّ بهم من مصائب وكوارث، هو آفة الآفات. أجل، المتجوّل في معرض طرزي سوف يحيا لحظةً مدوِّخة، مكثّفة، راعبة، حيث يتجسّد أمامه، في مساحةٍ محدودة، بعضُ ما عرفه هذا البلد الصغير في عقود القرن الماضي، منذ الثلاثينيات وحتى نهاية الثمانينيات، وهو ما يشي، مقارنةً بما نعيشه اليوم، بأنّ التاريخ اللبنانيّ فاقد العجلات، يراوح مكانه، معيداً تدوير العنف نفسه والأزمات والصراعات نفسها، في حركة عنف تصاعدية لا تني تبشّرنا بحدوث الأسوأ.
أكثر من مائة مطبوعة جمعها طرزي وأرشفها، تُبرز برأيه ظاهرتين: "استخدام" وأحياناً كثيرة "إساءة استخدام" صورة المرأة كاستعارة أو مَجازٍ للحرّية الجنسية. أمّا العنْف، وما استتبعه من صراعات مسلّحة، فهو الموضوع المهيمن على المجلات السياسية. هَذا وقد انتسج بين "الظّاهِرَتَين" المهَيْمِنَتَين ما قَد يُكنّى بالمغازَلة أو الميل الفطرِيّ، وكأنّ العنف المسلّح والرغباتِ الحسِّيّة، عَلى تشعّبهما، يتكاملان". أجل، بيروت هي مدينةٌ من ورقٍ قابل للتّلف والزوال، كما هو قابل للاحتراق أو معدّ للإحراق. مدينةٌ بلغت أقصى درجاتِ التوتّر، وقد اجتمعت فيها كلُّ التناقضات، حداثة وتقاليد، مبادئ ثورية ومجازر، احتفال بالحياة وقتل. مدينة تغلي، ترتعش، تهتزّ وترقص وتقرأ وتنشر وتقاتل وتناور وتبيح وتعترض وتتمرّد. لكنّها أيضاً مدينة احترقت أجنحتُها فالتصقت بالأرض وكبتْ، وما عادت قادرة على التحليق والارتفاع.
ما ينتهي إليه زائرُ المعرض إثر انتهاء جولته تحت سقف مملوء بالورق (فواتير، سجلات تجارية، دفاتر حساب، أوراق يانصيب، إلخ)، هو مقدرة اللبنانيين على النسيان، رفضاً لكلّ شعور بالذّنب، لأية محاسبة، نكراناً وعدم اعترافٍ بما ارتكبوه من أخطاء. أجل، ينسى اللبنانيون كي لا يعتبِروا، ماضين في عملية تدميرهم الذاتي، متباهين بقدرتهم وطاقتهم على الاستمرار في نحر الذات والتصويب الممتاز على العقل والقلب. يقول طرزي: "بدا البلدُ الصغير لمن يُطالع صحافته كياناً مريضاً قابلاً عند كلّ مفترق للتفكُّك والانْحلال والسّقوط المدوّي. بلد يعيش ليومه ولا يخطّط بتاتاً لغده (...) تجْذِبُنا هذه الصور المُنافية لما هو سائد من أخْلاق عامّة، أمّا الكَلِمَاتُ الحارقة فتنخر أمام أعْيننا ما عَهِدْناه مِنْ تديُّن وَتقوى. مجلّاتُ الكِفاح المسلَّحِ ثورِيَّة الرَّسائل بلا ريب، بيد أنَّ القَتْل - من أجْل ثورة أو رِدَّةٍ - هو القَتْل وما كُتب قد كُتب، وَها العنف الأهْلِيّ يعمّ الشَّوارِع". فتحيّة لذاكرتنا التي من ورق.