ذاكرة المدينة بوصفها جنسية

23 يناير 2021

(ليلى الشوا)

+ الخط -

لفتت نظري، قبل أيام، وأنا أمشي في شارع في منطقة الزمالك في القاهرة، لافتة معدنية أنيقة مكتوب عليها: "حكاية شارع كمال الطويل"، ثم سرد من عشرة أسطر يشرح من هو كمال الطويل وماذا قدّم لمصر. كنت أمشي في شارع كمال الطويل، الممتد على ضفة النيل، وأحد أجمل شوارع الزمالك، وفيه غاليريهات مهمة، وتعيش فيه شخصيات عامة معروفة. ثمّة ما يجعلك تشعر بأنك تمشي على أرضٍ من صخر، ثابتة، لن تخسف فيك وأنت تمشي فيها، إذ لا شيء يجعلك تشعر بالأمان أكثر من مكانٍ لديه ذاكرة عتيقة تحيط بك وتحضنك وتحميك من الانهيار، وأنت في بلدٍ ليس بلدك أولاً وأخيراً. 
ليس بعيداً عن شارع كمال الطويل، في الزمالك أيضاً، سوف تجد عند مدخل بعض العمارات القديمة الأنيقة لافتاتٍ مشابهة كتب عليها: هنا عاش عبد الحليم حافظ، أو فؤاد المهندس أو نجاة الصغيرة، وطبعاً أم كلثوم التي يزيّن تمثالها مدخل شارع أبو الفدا في الزمالك. وستجد في طريقك أيضاً عمارة ليبون الشهيرة التي عاش فيها رشدي أباظة وفاتن حمامة وليلى فوزي. في كل شارع في منطقة الزمالك ثمّة مبنى عاشت فيه شخصية فنية أو أدبية ثقافية مهمة، وثمّة توثيقٌ لتلك المباني وساكنيها، بوصفها من العلامات المهمة التي يجب الاعتزاز والفخر بها. 
لا يختلف وسط البلد، حيث أعيش، عن الزمالك، فهناك عمارة الإيموبيليا التي سكن فيها كثيرون من نجوم الفن المصري، ومن السياسيين والكتاب الذين تركوا علامة كبيرة في تاريخ مصر. لك أن تتخيّل وأنت تمر من أمام بناء قديم وضخم وتقرأ: هنا عاش محمود المليجي ومحمد فوزي ونجيب الريحاني وأنور وجدي وليلى مراد وتوفيق الحكيم وإبراهيم باشا عبد الهادي رئيس حزب الوفد. لك أن تتخيل كيف يعود التاريخ بكل تفاصيله إليك، فتتابع المشي وأنت تتذكّر السينما والكتب والتاريخ، وكل ما شكّل وعيك في مرحلة سابقة. وتفكّر في أنك تمشي في المكان الذي كان هؤلاء يمشون به، لتنفصل برهةً عن الضجيج حولك، وتسمع وقع خطواتهم وحواراتهم ومونولوجاتهم. وربما حتى ذلك الصدى من تفاصيل خلافاتهم ومكابداتهم وحزنهم وفرحهم الذي كان يشبههم، نبيلاً مثلهم، قبل أن يصاب الفن والثقافة في مصر بلوثة التحريم والتحليل وما خلفته من رداءة وتردٍّ، تحتاج مصر وقتاً طويلاً لتشفى منه. 
الغالبية العظمى من عباقرة مصر في الفن والثقافة الفكر لم يكونوا قاهريين، قدموا إلى القاهرة من مناطق المحروسة المختلفة، عدا العرب الذين قصدوها يوم كانت مركز الإشعاع الثقافي والفني والحضاري، وعملوا وعاشوا وماتوا ودفنوا في أرضها، كما لو أنهم من أهل البلد. لم يحتج أهل القاهرة الأصليون على هذا، بل اعتبروه مفخرة لعاصمتهم ومدينتهم، أن تكون مقصداً يجتمع فيه الإبداع والسياسة والفكر والثقافة والتنوير، إذ هذا ما يجب أن تكون عليه العواصم والمدن الحقيقية (لم تكن الإسكندرية في تلك الفترة تقل أهمية عن القاهرة، بل كانت أكثر كوزموبوليتانية منها، عاش فيها كتاب غربيون كثيرون، وكتبت عنها أعمال عظيمة في السرد والشعر). لهذا ربما لا يمكن الحديث عن مدينةٍ عربيةٍ تحمل صفات المدينية والمدنية حالياً غير القاهرة، على الرغم من كل محاولات التشويه والترييف التي ألحقت بها، وأصابتها في صميم هويتها المدينية الحضرية. 
أعطت القاهرة جنسيتها لكل الشخصيات العامة والمبدعين الذين عاشوا فيها. لهذا ربما أيضاً دفنوا جميعاً في مدافنها، لم يوص أحد منهم بأن يعود ليدفن في تربة مدينته أو بلدته الأولى، كلهم اشتروا مدافن في القاهرة ودفنوا فيها، وكلهم أصبحوا جزءاً من الذاكرة الجمعية الكبيرة للقاهرة، الذاكرة التي هي بمثابة الجنسية، أو الهوية إن شئت. أيضاً لم يحتج أحد من القاهريين الأصليين على هذا، بل فاخروا به بوصفه إرثاً كبيراً سوف تظل مدينتهم تحمله أبد الدهر. 
أفكّر بسورية، بدمشق تحديداً، عاش فيها أهم مبدعي سورية القادمين إليها من كل مكان. لم تمنح دمشق هويتها لأحد، لم تمنح لهم حتى كمشة التراب الأخيرة، لم يكن ذلك بسبب الدمشقيين، بل بسبب تركيبة المجتمع السوري الذي لم يتح له أن يكون طبيعياً، لا في ظل الاحتلال العثماني (الديني)، ولا في ظل حزب البعث (القومي). عاش دائماً في ظل المسكوت عنه من سوس الانقسام، ينخر فيه في الخفاء، لم ينج المجتمع السوري من الإيديولوجيات على أنواعها، لم تنجُ دمشق أيضاً. لهذا ربما لم تصبح دمشق يوماً مدينة، على الرغم من عراقتها عاصمة تاريخية.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.