"دُخان..." كل هذه البساطة
يُغبَط الكاتب القطري، أحمد عبد الملك، على مثابَرته في تنويع إصداراته (بلغت نحو الأربعين)، في القصة، وشؤون الإعلام، والبحث، والتأمّل، والمقالة، وإن يبدو أن غواية الرواية صارت تأخذ الحيّز الأوسع من مشاغله. .. قبل إصدارِه "بوح السبعين" قريبا، وسيكون كتابا أشبه بمذكّراتٍ وسيرةٍ، أو عصارة تجارب في مهنة الصحافة وفي ملازمة الكتابة وفي السفر والعمل وغيره، نَشَر، أخيرا، روايته العاشرة "دخان... مذكّرات دبلوماسي سابق" (بلاتينيوم بوك للنشر والتوزيع)، والتي مُنحت، قبل أيام، جائزة كتارا للرواية العربية، فئة الرواية القطرية، (الثانية للكاتب تُحرِز الجائزة نفسَها). ولئن قال عبد الملك إن هذه الرواية "لمسة وفاءٍ لمنطقة دُخان التي انطلق من أرضها الخيرُ إلى سائر أرض قطر"، فإن سؤالا ربما يجوز طرحُه هنا، عما إذا كان الحنينُ إلى العتيق، الانشدادُ إلى تاريخ المكان، الانجذابُ إلى تفاصيل الماضي، ما زال الثيمة الأكثر إغواءً (وحضورا) في الرواية العربية الخليجية. كثيرٌ من هذا عَبَر في أعمال روائية (وقصصية) غير قليلة للدكتور عبد الملك، غير أن الذي يصنَعه في "دُخان ..." لا ينتسب تماما إلى حنينٍ أو انجذاب، وإنما إلى رغبةٍ في مقاربة التوازي بين زمنٍ راهنٍ في بيئةٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ غربيةٍ وزمنٍ ماضٍ يتجدّد، ويتنوّع، في البيئة الثقافية والاجتماعية التي ينتمي إليها صاحب فعل التذكّر، الراوي، الذي يأخذُه صاحب النصّ من مكانٍ (أو بلدٍ) إلى آخر، من الدوحة إلى بيروت إلى باريس إلى لندن (أقام وعمل في بلدٍ أفريقي، كان طيّبا من الروائي لو جاءَ على هذه التجربة بإضاءةٍ مستحقّة). ولا يقوم التوازي هنا في خطيْن سرديين على شيءٍ من التباعد، المتخيّل والواقعي بينهما، وإنما بنوع من التشابك (أو التداخل)، فالدبلوماسي الذي تقوم الرواية على سردِه (في مذكّرات كتَبها) لا تفارقه منطقة دخان، و(حي) زكريت المتاخم لها، والدوحة في تحوّلاتها وحداثتها المتدرّجة، وهو في عمله في سفارة بلده قطر في لندن، وقبل ذلك في باريس.
يختار أحمد عبد الملك ضمير الأنا المتكلّم للغة السارد في الرواية، من خلال مذكّراتٍ له منشورة، تروقُ لمتقاعد إنكليزي، يعكف على ترجمتها، وهو الذي خبر منطقة الخليج، وعرف بلدانا عربية وأحبّها. والمُرسلة الظاهرة في أن تنبني الرواية على هذا النحو أن جريان السرد على لسان راوٍ واحدٍ لا يغيّب آخرين يحكون، يحضُرون رواةً في غير موضعٍ من الرواية التي يعبُر القارئُ من عتباتها الأولى، فيظنّ أن المتقاعد الإنكليزي هو ذلك الذي سيكون الشخصية المركزية في الرواية، غير أن كاتب المذكّرات هو هذا البطل، وتحضُر في الأثناء شخصية طبيب القلب المعروف في لندن، نجل الدبلوماسي المتوفّى، يحكي، هو الآخر، مروّيته التي تعزّز توازي خطوط النص. وفي غضون توالي وقائع وأحداث (خاصة وعامة!)، جاء لافتا أن الكاتب (أحمد عبد الملك، وليس البطل الراوي) أعطى مساحةً لزوجة السفير الأولى، طليقته، ابنة خالته، والتي لم يحدُث الانسجام، النفسي، بينهما بعد زواجٍ تقليديٍّ. تسرُد هي بنفسِها عن نفسِها، في رسالةٍ خاصة تبثّ فيها ما ظلّ في حشاياها عن زوجها السابق، وعن معلوماتها "الصفر فيما يتعلق بالعلاقة الحميمة مع الرجل"، وعن زواجٍ كان "صفقةً اجتماعية".
لم يكن عبد الرحمن الوجدي (الدبلوماسي كاتب المذكّرات)، إذن، الراوي العليم وحده في الرواية، وإنْ هيمنت محكيّاته ومشاهداتُه على مسار الحكاية التي تتبدّى خطّيةً تقليديةً وإنْ جاءت على ماضٍ بعيد وآخر قريبٍ بصيغة ما يتذكّره البطل، وما يحدِّث به نفسَه، وما تأتي عليه انطباعاتٌ له بتلقائيةٍ فائضة، تصدُر من منظوره الخاص. كانت زوجته البريطانية، التي اقترن بها بعد قصة حب، تقولُ وتحكي. وأميل هنا إلى أنها من الشخصيات الأكثر تركيبا في أبعادها في الرواية. وقد يستشعر القارئ أن هذه المرأة البريطانية المتعلّمة، المثقّفة، الشغوفة بمعرفة الآخر، هي المقابل لزوجة الدبلوماسي القطري صاحب المذكّرات الأولى من بلده، غير أن هذا ليس أساسيا ولا جوهريا، وإنما الأساسيّ والجوهري أن "دخان..." روايةٌ معنيةٌ بالوفاء للمكان الأول، العتيق الباقي في النفس، من دون أي تضادٍّ مع الدخول في متن العالم وحداثته. معنيةٌ حكايةٍ مسرودةٍ بفائضٍ من البساطة، لتبدو حكايةً تيسّر تفاصيلها لقارئها من دون مراوحاتٍ في تجريب تكنيكاتٍ روائيةٍ مركّبة. روايةٍ مريحةٍ لقارئٍ يكتفي بالحكاية ذات السطوح الظاهرية للأشياء، والمعاني المكشوفة، غير مريحةٍ لقارئٍ متطلّب، مجرّبٍ في القراءة، لا يستطيب كل هذه البساطة.