ديمة الشكر تحكي عن المذبحة السورية
تشيع رواية الناقدة والكاتبة السورية ديمة الشكر "أين اسمي؟" (دار الآداب، بيروت، 2021) في قارئها شعورا بحميميةٍ عاليةٍ مع أمكنتها وفضاءاتها ومناخاتها، حجرات البيوت وأبوابها، الكنائس الفخيمة، وكذا مع ثيابٍ ومطرّزاتٍ وأقمشةٍ وبلاطات من القيشاني يفيضُ الحكي عنها بالوداعة، ومع نباتاتٍ وأزهارٍ وشجرات وسنابل، ومع أشياء تتنوّع وتتعدّد، لا توصَف فحسب، وإنما تحضُر نابضةً بدفءٍ غزير. وذلك كله، وغيره، يعود إلى الحرارة التي تُحدثها اللغة التي انكتبت بها الرواية، ليس فقط في شعريةٍ خافتةٍ تنبثّ منها، وإنما، من قبلُ ومن بعد، في القدرة التي تُحرزها هذه اللغة، وهي تجوس في حشايا شخوص النص التي تُرى بعيني الراوية الأساس، الخادمة المدوّنة الكاتبة، السورية، قمّور، قبل أكثر من 130 عاما، في دمشق ولندن، بعد مذبحةٍ في حارة النصارى في باب توما في الشام في 1860، غادرت إليها ديمة الشكر، لتقول ما أرادت أن تقول عن زمنٍ راهن، جاءت في غضونه على مذابح أخرى، تأتي عليها راويةٌ قرينةٌ للشامية النائية تلك، تحكي أيضا من دمشق ولندن. وعلى ما يجتهد عارفون بعلوم السرد، يتيحُ القصّ بلغة الأنا ذهابا أدقّ تعبيرا (أو يُفترض هذا؟) عن دواخل الذات، وأيضا عمّا تعكسه هذه الذات من مواقف تجاه الأشياء والشخوص المحيطة.
يحضر فائض الدفء والحميمية المتحدّث عنه هنا فيما بؤرة مركزيةُ في الرواية لتلك المذبحة بالغة الشناعة، تُتقن الراوية الناجية منها وصفها، ثم جمْع قصص الضحايا. يأمرها سيدها القنصل البريطاني، ريتشارد بورتون، الذي ترجم "ألف ليلة وليلة" إلى الإنجليزية، أن تدوّن هذه القصص، لا أن تكتبها، أن تلقي بها بين دفتي كتاب، بكل برود. تفعل هذا بالإنجليزية، "لعلّها تخفّف وهج الرعب وصوت الويل يلفّ حي باب توما ذبيحا، في التاسع من تموز تمام الثانية بعد الظهر". وقمّور أساسا تحكي عن نفسها "أنا السورية ابنة المذبحة، ولدتُ من هذا اللفظ المرعب، وعشتُ على حوافّه المسنّنة". وثمّة في لعبة ديمة الشكر هنا التباسٌ رهيف، وأظنّه حاذقا أيضا، ثمّة كتابةٌ أخرى بالعربية أنجزتها قمّور عن المذبحة، من وحي قصصٍ عن الضحايا، وثمّة النص الذي نقرأه في الرواية، وثمّة مقطعٌ تفضح فيه ضعف النص بالإنجليزية المكتوب لنا بالعربية. وقبل هذا وبعده، أراد القنصل، وهو "ذهنُه وقّاد، وله حاسّة صيّاد متمرّس"، تعمل قمّور في خدمته وزوجته في منزله، أولا في الشام ثم في لندن، أراد منها أن يكون "تدوينها" القصص المُجمّعة من باب توما "بلا صفات، بلا محاكاة، بلا تمثيل، .. وصف حيادي فائق الدقة فحسب". .. كأن المُرسَلةَ المضمرةَ في المحكيّة هاته أن للوقائع في مشرقنا، بمذابحه (وغيرها) رواية منا ورواية من الأجنبي المتعالِم.. كانت قمّور عندما تبدأ الكتابة، تغمس الريشة في دواتِها، وتنتظر "شيطان الكلمات". وأظنني هنا لا أتجاوز موقعي معلقا، واقفا على حاشية روايةٍ رائقةٍ ملمومة، لو كتبتُ إن ديمة الشكر جعلت لشخصيتها المتخيّلة، قمّور، روايتَها كما أرادتها. قاومت فعل المحو الذي استُهدفت به، وعندما رأت مخطوطها منسوبا لزوجها، حنا، سألت: أين اسمي؟، وفي صيحتها الساخطة هذه تُعلن صوت الأنثى العربية المغيّبة ذاتا وشعورا وإنجازا.
هل هذه قولة الرواية الأولى للناقدة المختصّة بإيقاع الشعر وعروضه؟ نعم، وإنْ ليست وحدها، فثمّة أيضا الزمن السوري الممتدّ من مذبحةٍ في نصارى باب بيت توما إلى مذابح راهنةٍ في كل سورية، ففي خواتيم صفحات الرواية التي أفادت جيدا من التاريخ، وسافرت إلى مقطع منه معمّى عليه، تقول زينة، قرينة قمّور، في 2017، إنها لمّا كانت السيارة تقترب بها من الحدود السورية، قادمةً من بيروت من لندن، كادت تسخر من قمّور التي شهدت مذبحة 1860، وقطعت هذه الطريق مرّة في الذهاب وأخرى في الإياب. "الطريق نفسها، أما المذبحة فليست محصورةً في حي صغير، بل ممتدّة تلتهم البلد برمته، ..". هو الزمن السوري، إذن، منكشفٌ ومفتوحٌ على الدم، ولكن من يكتب القصص ويرويها، من يحكي عن "الهجوم بالعصيّ والسكاكين والخناجر والنار". ..؟ كانت قمّور تكتب وتكتب، لمّا تنقاد إليها "شياطين الكلمات"، كانت تجمع الحكايات، تتذكّر في مقاطع، ولا تحتاج أن تتذكّر في مقاطع أخرى، وتتناجى مع جروحٍ في جوفها، يروّعها عدد القتلى .. تقول أنظر إلى "أبواب الخشب المشغولة، وتنهض أمامي أسماء أهلها، ووراء كل اسم قصة".
صنعت ديمة الشكر طيبا لمّا وصلت الحكاية الماثلة بالحكاية البعيدة. لمّا تتابع فيض القص في مونتاجاتٍ وتقاطعاتٍ بين أمكنةٍ وأزمنة، بين منطوقٍ ومكتوم، بين محسوسٍ وغير محسوس، لمّا طرقت أبوابا في حارةٍ دمشقية، ولمّا توازى التاريخي في صنيعها مع المتخيّل الشفيف، فكانت قمّور بئر حكاياتٍ عن شام غافية، عن أثوابٍ أمها، كأنها كانت تقول عن سورية التي تبتعد وتبتعد.