دولة ديمقراطية "ولاك"
يستخدم أهالينا كلمة "ولاك" لردع الطفل، وتصغيره أمام نفسه والآخرين. وعندما يثور الأب، لا يكتفي بزجر ابنه، وشتمه، بل يشمل الأطفالَ (أملَ المستقبل الواعد) جميعَهم بقوله: يلعن أبو هالجيل. ويقال للبنت "وليك"، حتى بعد أن تتجاوز سنّ الطفولة، وتصبح مؤهلة للزواج... أهل مدينة إدلب يعشقون التنويع، لذلك يشتقون من "وليك" كلمةً توحي للمرء بأن أصلها فرنسي، هي: واكيه. ويطلقون على الطفل، أحياناً، لقب "عَجي"، وتعني أنه دنيء، يندفع نحو الطعام من دون تحفظ أو تعفّف، وأهل ريف معرّة النعمان يطلقون على الفتاة التي في سنّ الزواج لقب "عجية"، ولعلّ أول جملة يقولها الشاب لوالدته بعدما ينتهي من الخدمة العسكرية: أنا بودّي أتزوّج، قومي نَقّي لي عجية. والشاب، هنا، لا يقصد أن تكون البنت دنيئة، بل صغيرة بالسن، وبهذا يكون معنى "العجية" محبباً.
على ذكر العسكرية، فوجئنا، نحن الشبان الذين ساقنا قدرُنا أحمق الخطى إلى الخدمة في الجيش العربي السوري (المعروف باسم جيش أبو شحاطة) بأنّ الضباط، وطلاب الضباط المتطوعين، في معرض احتقارهم إيانا، يخففون كلمة ولاك لتصبح "ولاه"... وكاتب هذه الأسطر يعتقد أنّ اختراع هذه الـ "ولاه" يعود إلى الثمانينيات، عندما أسّس رفعت الأسد سرايا الدفاع، وأطلق كلابه في الشوارع، على حد تعبير الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم... وشاع تداول لفظة "ولاه"، منذئذ، في عموم أنحاء سورية، وصارت، في الأوقات اللاحقة، تأتي مركبة كقولهم "ولاه حقير"، "ولاه كرّ"، وكان بعضهم يستخدمها بمنتهى الهدوء، كما لو أنه يخاطب الآخر بكلمة مستر، أو أفندي، أو مسيو، فتراه يسأله، وهو مبتسم: أنت من أي بلد ولاه كرّ؟ وهنا لا بد أن نتذكر النكتة التي رواها الشاعر الظريف، لقمان ديركي، أن ضابطاً من سرايا الدفاع قال لمواطن: انزل عن الرصيف ولاه حمار. وكان ذلك المواطن ذا عين حمراء، فقال للضابط: لا تقل "رصيف".
في الستينيات، حينما كنتُ في المدرسة الابتدائية، ثم في الإعدادية والثانوية، لم تكن مدارسنا مزوّدة بخرائط ومجسّمات لشرح دروس الجغرافيا، أو مخابر لإجراء تجارب الفيزياء والكيمياء. كانت، باختصار، خاليةً من كل أنواع وسائل الإيضاح. لكن كانت لكل صف عصا من خشب، يُكتب عليها اسمه، ورقم الشعبة، بالإضافة إلى العبارة الشهيرة "العصا لمن عصا". وكان بعض المعلمين يدلِّعون عصيَّهم، فيطلقون عليها ألقاباً من قبيل: الصفرا اللئيمة، الضاروبة، الطَرّاقة، أم الطايع... ومعلم الصف الرابع أسمى عصاه "بنت يوسف الثقفي". وكانت عصيّ الصفوف كلها تودَع في غرفة المستخدم "الآذن"، فإذا أذنب تلميذٌ ما، وكثيراً ما كنا نذنب، لأننا لا نعرف ما هي الأشياء التي ترضي معلمنا، أو تغضبه، يرسل المعلم عريفَ الصف إلى غرفة الآذن، ليقول له: أعطني عصاية الخامس شعبة ثانية، مثلاً. ولم يكن المعلم يخشى في ضربنا على أيدينا أو أقدامنا لومة لائم، لأن كل واحدٍ من آبائنا المحترمين كان يصطحب ابنه، في مطلع العام الدراسي، إلى المدرسة، ويسلّمه لمعلم الصف مردّداً العبارة التقليدية الشائعة "اللحمُ لك، والعظمُ لنا". يعني أنه يزعل من المعلم في حالة واحدة، أن يؤدّي الضرب إلى كسر في العظام. وأذكر أن أحد زملائي في الصف الثالث، من كثرة ما ضربه المعلم على يديه المقرنستين من البرد، خانته مثانته، فملأ ثيابه بالبول. وفي حالة معاكسة، تمادى أحد المعلمين في ضرب تلميذ. وفي اليوم التالي، نصبت مجموعة من أقارب التلميذ كميناً للمعلم، واستمرّوا يضربونه حتى تحوّل إلى ممسحة.
يتذكّر محسوبكم هذه الأحداث كلها وهو يقرأ كلاماً لأحد المعارضين يقول فيه إن إسرائيل لن تسمح بقيام دولة ديمقراطية في سورية. يا سيدي، دعك من إسرائيل وأميركا وهذا كله، هل نريد - نحن السوريين - إقامةَ دولة ديمقراطية؛ بجد؟