دلالات فوز اليسار في تشيلي
أعاد فوز مرشّح اليسار الراديكالي، غابرييل بوريك، في الانتخابات الرئاسية التي شهدتها تشيلي، الأحد المنصرم، بنسبة ناهزت 56%، النقاشَ بشأن مستقبل اليسار في أميركا اللاتينية. ففي وقت بدا أن اليمين المحافظ يتجه إلى استعادة المبادرة في أكثر من بلد هناك، جاء فوز بوريك ليخلط الأوراق من جديد في منطقةٍ شكل التقاطب بين اليمين واليسار أحد العناوين البارزة في تاريخيها، السياسي والاجتماعي.
يصعب فهم السياقات المحيطة بعودة اليسار إلى السلطة في تشيلي، من دون ربطه بالارتجاج الذي شهدته البلاد قبل سنتين (2019)، حين خرج التشيليون إلى الشارع في واحد من أكثر الاحتجاجات الشعبية شراسة في العالم خلال السنوات الأخيرة، رفضاً للفساد وغياب المساواة والعدالة الاجتماعية. فقد أعادت هذه الاحتجاجات صياغة معادلة الصراع السياسي منذ نهاية حكم أَوغوستو بينوشيه (1990)، التي اتسمت بتوازنٍ، متوافق عليه، بين اليسار الاشتراكي المعتدل واليمين المحافظ المعتدل. وفي الوسع القول إن هذه المعادلة استنفدت مقوّماتها بعد أحداث 2019، إذ بات من الصعب الاستمرار في التوفيق بين الإرث السياسي والاقتصادي لبينوشيه من جهة، والديموقراطية الانتخابية القائمة على تداول السلطة بين اليمين واليسار المعتدليْن. وتوازى ذلك مع تشكّل توازناتٍ جديدةٍ أفضت إلى انتخاب مجلس تأسيسي جديد، في مايو/ أيار المنصرم، أُوكلت إليه مهمة وضع دستور جديد للبلاد في أجلٍ لا يتعدّى شهر يوليو/ تموز المقبل، ما يعني أن تشيلي تتجه إلى القطيعة مع كل ما يمتّ إلى هذا الإرث بصلة. وبالتالي، عودة الصراع السياسي والاجتماعي إلى جذوره، وهو ما بدا في السباق الرئاسي الذي جمع اليميني المتشدّد ومرشّح الجبهة الاجتماعية المسيحية، خوسي أنطونيو كاست، ومرشّح اليسار الراديكالي وأحد قادة احتجاجات 2019 غابريل بوريك.
يشكّل فوز اليسار في تشيلي ضربة موجعة لليبرالية الجديدة في أميركا اللاتينية. وفي هذا الصدد، وعد الرئيس المنتخب بسنّ سياسات اجتماعية أكثر إنصافاً للفقراء الذين تضرّروا نتيجة السياسات الليبرالية المنتهجة. بيد أن هذا التوجّه اليساري الصريح يثير مخاوف الأوساط الليبرالية والمحافظة في تشيلي، التي شكّلت القاعدة الاجتماعية لنظام بينوشيه، ولا سيما أنه سيتوازى مع نظام دستوري وسياسي جديد، يُتوقع أن يقطع مع الماضي. ولعل عضو مجلس الشيوخ، خْوان إغْناثْيو لاطورِّي، لم يجانب الصوابَ حين تحدّث عن مخاوف بشأن ''التفافٍ ما'' قد تقوده القوى اليمينية المحافظة على التغييرات العميقة التي تشهدها تشيلي على غير صعيد. هذه القوى التي يشكّل الرأسمال مجالَ نفوذها الحيوي، تحتفظ بعلاقةٍ قويةٍ بالجيش الذي، على الرغم من التغييرات التي شهدها خلال العقدين الأخيرين، يبقى مصدر توجّس بالنسبة إلى فئات واسعة داخل المجتمع التشيلي. وعلى الأغلب، سيتجاوز الوافد الجديد على قصر لامونيدا أجواءَ الحماسة التي رافقت إعلان فوزه، ويحاول، حسب بعضهم، النظرَ بواقعية أكثر إلى التوازنات القائمة تجنباً لأي انزلاقٍ لا تحمد عقباه، ما يعني ضرورة نجاحه في إقناع مختلف القوى المجتمعية بأهمية السلم الأهلي والاجتماعي في بناء تشيلي جديدة، أكثر قدرةً على استخلاص دروس الماضي والاستفادة منها. يتعلق الأمر بفرصةٍ غير مسبوقة أمام اليسار التشيلي، لإثبات أن الوعد بالرخاء الاقتصادي ليس محصوراً باليمين الليبرالي المحافظ، بل يمكن تحقيقه عبر سياساتٍ متوازنةٍ تتوخّى تقليص التفاوتات الاجتماعية وتجويد أنظمة التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، من دون تكلفةٍ اقتصاديةٍ باهظة، ما يعني سحب البساط من تحت من يرى في المطالبة بالمساواة والعدالة الاجتماعية العنوان الأبرز لليسار المتطرّف.
إقليمياً، يُتوقع أن يمنح فوز بوريك هامشاً أوسع أمام الحكومات اليسارية التي تتولّى السلطة في فنزويلا والأرجنتين وبوليفيا والبيرو لإعادة ترتيب أوراقها، وفي المقابل، سيشكل ذلك خيبة أمل بالنسبة إلى الحكومات الليبرالية المحافظة التي تتولى السلطة في البرازيل وكولومبيا والأوروغواي والباراغواي والإكوادور، ما يعني تحدّياً سيكون على الليبرالية الجديدة والقوى المجتمعية المصطفة حولها مجابهته في المرحلة المقبلة.