دفاتر مجعص وزعيطو
ثمّة خبر طريف، نشرته صحيفة الثورة، السورية، قبل أيام، ينص على أن الذين يشترون ذهباً في دمشق أصبحوا الآن، بناء على قرار من نقابة الصاغة، ملزمين بالتوقيع على فواتير كربونية عند الشراء. طرافة الخبر تأتي من أنه واحد من الإجراءات الخلّبية التي تقوم بها السلطة الديكتاتورية في سورية منذ نصف قرن، فإذا ظهر إخفاق هذه الإجراءات لا تتراجع السلطات عنها، بل تزداد حباً لها، وتمسّكاً بها.
ولئلا نذهب بعيداً، أنا، محسوبكم، عايشتُ نوعين من الإجراءات الخلبية، في الثمانينيات، خلال "أحداث الإخوان".. إدارةُ الأمن الجنائي فرضت على كل محلات استنساخ المفاتيح أن تلزم مَن يريد استنساخ مفتاح لمنزله أو دكانه بتصوير هويته الشخصية، وجهاً وقفاً، ثم يسجل اسمه، واسمَ بلدته، وتاريخ ولادته، واسم حارته، ورقم هويته، واسمي أمه وأبيه في دفتر خاص.. هذا الإجراء أوقع سبّاكي المفاتيح في محنة حقيقية، فالعملية بحد ذاتها مربكة، وقد لا يعثر الراغب باستنساخ مفتاح لمنزله على مكتبة قريبة فيها جهاز تصوير فوتوكوبي، وقد تكون في ذلك الوقت مغلقة، فيضطر لأن يبحث عن مكتبة أخرى. إضافة إلى أن أهل مدينة إدلب، على سبيل المثال، يعرف أحدُهم الآخر معرفة تزيد عن الحد المطلوب، فلنفرض أن فايز حميداني جاء إلى محل "أبو هيثم داكل" ليسكب مفتاحاً لمنزله، أبو هيثم يعرف فايز، وأباه الحاج سعيد، ويعرف أن زوجته من عائلة بدلة، وأفرادَ تلك العائلة فرداً فرداً، فكيف تطاوعه نفسه أن يطلب منه إثباتاً لشخصيته؟ وإن طلب منه ذلك، فقد يسخر منه، أو يزعل .. والإجراء الثاني اتجهت به السلطات الأمنية إلى صاغة الذهب، الهدفُ منه، كما أشاعت تلك السلطات، حماية دكاكين الصاغة من السرقة، أو الاحتيال، فصار لزاماً على كل صائغ أن يمسك دفتراً من القطع الكبير، يسجّل فيه اسم كل من يشتري أو يبيع قطعة ذهب، على أن ترفع هذه الدفاتر إلى فرع الأمن السياسي، مرة كل شهر..
الأكثر طرافة، وعبثية، أن الجهات التي تطلب تنفيذ هذه الإجراءات العقيمة، في سورية الدولة الفاسدة، لا تهتم كثيراً بنتائجها. وعندما تأتي دورية الأمن الجنائي إلى محل سباكة المفاتيح لتستلم النتائج، يكون من حقها أن تستلم من صاحب المحل مبلغاً معلوماً في البداية، وبعده تأخذ الدفتر المكتوب، وتذهب به إلى الفرع، حيث ترمى الدفاتر المتجمعة في غرفة قصية. وعندما تتراكم، ويضيق بها المكان، يرفع أمين المستودع إلى رئيس الفرع كتاباً يطلب فيه الموافقة على ترحيلها وإتلافها. أما بالنسبة إلى الصاغة، لا يكون الأمر بهذه البساطة، فإذا كانت أجرة سبك المفتاح عشر ليرات، فإن أصغر قطعة ذهب قيمتها مئات الليرات، بسعر تلك الأيام، وقد تتجاوز ألف ليرة، وإجمالي مبيعات الصائغ الشهرية يمكن أن تبلغ بضع مئات من الألوف، إن لم تصل إلى المليون. وعليه، المبلغ "المعلوم" الذي يُفرض على كل صائغ يجب أن يكون دسماً، ليوزع على شلة الحرامية والمرتشين كل بحسب منصبه ورتبته..
في الجانب الآخر، أعني جانب الشعب المقهور، تجري معالجة الأمور على نحو ساخر، بل هزلي، فعلى ما أذكر أنني كنت أزور أحد أصدقائي من الصاغة المعروفين في مدينة إدلب، فيقول لي: جيت بوقتك. تعال ساعدني لنملأ "دفتر السياسية".. وبينما مساعده يغلي لنا الشاي، يفتح دفتره وأنا أخترع له أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، مثل: مجعص الهكط، زعيطو الخليف، جسومة الطَزّاز من قرية زمار، أم الشمقمق زوجة المرحوم أبو الشمقمق .. يسجلها ثم يغلق الدفتر، ويؤكد لي، بعد ذلك، أن كل الصاغة في إدلب يملأون دفاترهم بهذه الطريقة، وهم مطمئنون لعملهم كل الاطمئنان، لأنه لا يوجد ابن آدم واحد يفتحها أو ينظر فيها!