دعوا المسجد الأقصى ينتصر

10 مايو 2022
+ الخط -

من الواقعي الافتراض سلفاً أن وجهة النظر المبثوثة في ثنايا هذه المطالعة ستكون موضع تحفّظ مفهوم، واعتراض مبدئي مقبول، وربما محلّ استهجان، من أكثرية قوم رازحين تحت احتلال فاشيٍّ كريه، يعربد بلا حسيب أو رقيب، سيما في هذه الأيام الحبلى بمزيد من الآلام. كذلك من الطبيعي جداً أن يجادل الممتلئون بمشاعر الترك والخذلان والنسء وخيبة الأمل، بصواب رأي يدعو إلى مقاربة الحالة الفلسطينية المثخنة، برباطة جأش وواقعية ثورية، وبعقلٍ باردٍ يتوسل استنهاض القوة الكامنة، بالصمود والمقاومة الشعبية والهبّة الشعبية والعمليات البطولية الفردية، بعيداً عن ملعب المواجهة الحربية المباشرة.
في ظل الاختلالات الفادحة في علاقة القوة الراهنة، والتفاوت الشديد في القدرات على كل صعيد مادّي مع المحتلين، يصعب التهليل لجولةٍ حربيةٍ مكلفة، والحديث من ثمّة عن انتصارات عسكرية مرجوّة ضد عدوّ مدجّج بعوامل التفوّق المادية، إلا أنه يمكن، بالمقابل، الحديث عن الفوز بالنقاط، وعن المكاسب الجزئية، والإنجازات المتراكمة على طول الطريق المفضي في النهاية إلى نصر لا شك فيه، اقتداءً بما سارت عليه حركات التحرّر في العالم، وقطفت في مآله الأخير ثمرة الحرية.
المواجهات في القدس، والمعارك في المسجد الأقصى، وحدهما تشذّان عن القاعدة، وتسمحان بالقول إن ما ظل يتحقق، من دون انقطاع، في هذه البقعة الفريدة من أرض فلسطين، كان سلسلة من الانتصارات المُنجزة بالمقاومة متعدّدة الأشكال، بما في ذلك الصمود والصلاة والعناد والإعلام والدبلوماسية، وحُسن الأداء في مخاطبة الرأي العام، الأمر الذي يجيز لنا القول، بثقة، إن "الأقصى"، بقداسته الهائلة، ورمزيته الباذخة، هو القوة الفلسطينية الراجحة، الخندق الأمامي المتقدّم، رأس المال الكفاحي المتجدّد، الذخر الاستراتيجي الأوحد، رأس الحربة التي لا تصدأ، ما يبرّر النداء المشفوع بالرجاء "دعوا الأقصى ينتصر".
تُعيد المعركة حول صحن المسجد الأقصى إلى الذاكرة الغضّة ما كان يقوله فيصل الحسيني لسجّانه زمن انتفاضة الحجارة: نحن لن ننجرّ الى ملعبكم كي نتبارى وإياكم بلعبة القوة، بل نحن الذين سنجرّكم إلى ملعبنا، حيث الحجر في مقابل البندقية، المقاومة المدنية في مواجهة الآلة الحربية، الخطاب المطالب بالحرية والديمقراطية ضد إنكار وجودنا، ومصادرة حقوقنا المشروعة. سنحاصركم بقوة المنطق لا بمنطق القوة، وسنكسب الرهان، وسنربح المباراة في حلبة المصارعة، باللكمات المتتالية فوق الخاصرة، لا بتسديد الضربة الفنية القاضية.
ليس معنى ذلك استبعاد أي من عوامل القوة العسكرية، أو تجنب بناء عناصر التمكين الذاتية، بما في ذلك حيازة الأسلحة الصاروخية، والتهديد باستخدامها كلما اقتضى الموقف توظيفها ضمن المعادلة غير المتكافئة، على نحو ما جرى في الأسبوع الماضي، حيث كان التلويح بها أشد تأثيراً وأكثر جدوى من خيار تفعليها، بدليل ما بدت عليه قوات الاحتلال أخيرا في ساحة "الأقصى" مرضوضة ومردوعة، تتحاشى التصعيد، تستعجل الانصراف.
وفي الذهن، وبين يدي طرح "دعوا المسجد الأقصى ينتصر" أن مكاسب معركة سيف القدس قبل سنة قد تبدّدت بسرعة قياسية، وأضاعت عنعناتها، مع الأسف، فرصة ثمينة للخروج من حالة الانقسام المعيبة، جرّاء سوء التقدير والمنافسات الفصائلية، حيث بدا المشهد في حينه، على وقع الرشقات الصاروخية الغزيرة، وكأنه قد صار لدى الفلسطينيين جيش مكافئ، حلّ محل مقاومتهم المشروعة، وأنه أصبحت لديهم القوة العسكرية المناددة لقوة للدولة المتفوقة على محيطها الواسع، فيما الحقائق المريرة تقول عكس ذلك، وتنبئ أن الصراع الطويل لا يزال طويلاً، وأن من الظلم الفادح تحميل غزّة المنهكة وزر تعديل كفّة موازين مختلّة بشدة.
لعل من سوء طالع احتلال عنصري فوق القانون مُتسامح معه أن في القدس حائط صد منيعا، لا يُفلّ له حديد ولا ينطفئ له جمر، عصيّا على الأخذ والتهويد، اسمه المسجد الأقصى، رقعة صغيرة (كيلو متر مربع) من الأرض المباركة، باتت موضع نزالٍ لا تفتر لأهله همّة، ولا يُشقّ لخيلهم غبار، تحوّل إلى هوية وعنوان، صار رقماً غير قابل للقسمة على اثنين، وغدا شوكةً في حلق الاحتلال، بؤرة اشتباك على مدة الأيام، وأثبت حقيقة أن في أكنافه قوماً جبّارين، يقاومون بصدورهم العارية، ويكسبون بفعالياتهم الشعبية كل معاركهم العادلة، وفق ما تدل عليه صحائف الأقصى المجيدة خلال السنوات القليلة الماضية.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي