دراما السجون المصرية
تطبُخ المخابرات ووزارة الدفاع المصريتان مسلسلاتٍ تلفزيونية، تتوفّر لإنتاجها ميزانياتٌ ثقيلة، مهمتها تزيين نظام ما بعد انقلاب 3 يوليو (2013)، وبرئاسة عبد الفتاح السيسي. ولكنها تُشهِد الأشهاد على صدق مثلٍ ذائعٍ يتساءل (أو يسأل؟) عمّا في وسع المشّاطة أن تفعله للوجه العِكر. ولكي لا يُظَنّ أن لهذا المفتتح لسطور هذا التعليق غرضا في التشنيع على النظام الموصوف، فإن ما تتابع نشرُه، في الأسبوع الماضي فقط، بشأن فظاعاتٍ في السجون المصرية كافٍ وحدَه ليكون عينةً دالّةً من لوحةٍ لا يتوفّر فيها غير الشناعة، وهذه ليس في وسع مهرجانات الزيف الدعائية في المواسم الرمضانية سنويا أن تكشُط نزرا منها. ولمّا كان في الوسع أن نشاهد في زمن حسني مبارك أفلاما سينمائية عن مباذل في السجون المصرية وعن تعذيب المعارضين، بل وقتلهم أيضاً، (فيلم عاطف الطيب من بطولة أحمد زكي "البريء" نموذجا)، فإنّك لن تُصادِف مشهداً في أيٍّ من المسلسلات المطبوخة يأتي على شيءٍ من بعض هذا في زمن عبد الفتاح السيسي.
تحتاج إلى أعصابٍ خاصةٍ لقراءة تقرير الجبهة المصرية لحقوق الإنسان، وعنوانه مُفزع "لا أحد آمن: العنف الجنسي خلال دورة الاحتجاز في مصر 2015 – 2022". يتضمّن تحليل مقابلاتٍ مكثفة مع ضحايا وأفراد عائلات ومحامين وخبراء في الموضوع بين يونيو/ حزيران 2021 وفبراير/ شباط 2022. يتحدّث محتجزون عن تعرّضهم للضرب المبرّح والصعق بالكهرباء في أعضائهم التناسلية، وتعريتهم تماماً، وتهديد بعضهم بإحضار زوجاتهم واغتصابهن. وقد وثّق التقرير بالأرقام والأسماء 655 حالة، بينها 57 حالة عنف جنسي تعرّضت لها نساءٌ في مقرّات جهاز الأمن الوطني، بين لمس الأعضاء التناسلية وصعقها بالكهرباء والتعرية القسرية، عدا عن تهديد أخريات. ويخلُص التقرير (المفصّل) إلى أنّ السلطات المصرية تستخدم العنف الجنسي في أثناء عملية الاحتجاز وسيلةً للتعذيب ومعاقبة المحتجزين وإخضاعهم لسيطرة السلطة.
قبل يومين من نشر هذا التقرير، كانت منى سيف، شقيقة المعارض المصري المسجون منذ سبتمبر/ أيلول 2013، علاء عبد الفتاح، تُغرّد أنّه في إضرابٍ مفتوح عن الطعام منذ الأول من رمضان، احتجاجاً على احتجازه في زنزانة انفرادية ومنعه من التريّض والقراءة. وفي اليوم نفسه، كانت أسرة المعارض الإسلامي، عبد المنعم أبو الفتوح، تعلن عن "اعتداء بدني همجي" عليه من ضابط في السجن. وقالت الأسرة إنّه يعاني من مشكلاتٍ صحية. ومعلومٌ أنّ هذا الرجل النبيل إنّما يتعرّض لعملية انتقام شنيعة، يقترفها ضده النظام الحاكم. أما الناشط السياسي، أحمد دومة، فأعلنت أسرته، في الغضون نفسها، أنّه دخل إضراباً مفتوحاً عن الطعام والماء والمحاليل الطبية، وأنّ وضعه الصحي في خطر. وذلك بعدما امتنعت سلطات سجن المزرعة في منطقة سجون طُرة في القاهرة عن تلبية مطلبه الكفّ عن التضييقات عليه، وحرمانه من حقوقٍ أساسية، مع تكرار حالات التعدّي عليه. وبالتزامن أيضاً وأيضاً، تُصدر تسع منظمات حقوقية مصرية مستقلة بياناً تصف فيه محاكمة 16 شخصاً انتهت إلى الحكم عليهم بالإعدام بأنّها جائرة، وهم متهمون بتفجير حافلة شرطة. ووثّق البيان حزمةً من انتهاكاتٍ مورست على هؤلاء، جرَّدت محاكمتُهم من الحد الأدنى لمعايير الإنصاف، بعدما أثبتوا، في تحقيقات النيابة، تعرّضهم للقبض العشوائي والإخفاء القسري والتعذيب البدني الشديد.
اجتمعت هذه البيانات، ومعها التقرير الخاص بالعنف الجنسي، في أربعة أيامٍ متتالية، الأسبوع الماضي، بالتزامن مع تدشين بثّ المسلسلات (بعضها ما زال قيد التصوير والمونتاج) عن مآثر عبد الفتاح السيسي وشمائله وسجاياه ووداعته، في أثناء عمله على حماية مصر والمصريين من متآمرين إرهابيين، ودسترة حرّياتهم والديمقراطية التي صاروا يرفلون فيها. ولا يتعسّف واحدُنا في الرأي أنّ الأخبار التي لا تتوقف شهرياً (بل أسبوعيا أحيانا) منذ وثبة السيسي إلى قصر الاتحادية، عن موت محابيس مخطوفين في السجون (تجاوز عددهم الألف بحسب منظماتٍ حقوقية) كافيةً وحدها لإشهار مطالب محقّة بمعاقبة هذا النظام، طالما أنه بلا حساسيةٍ تجاه حياة مواطنيه في الزنازين ومراكز التوقيف. ولم تبالغ "العفو الدولية" قبل عام لمّا كتبت، في تقريرٍ موثق ومعلن، إن أرواح السجناء في مصر في خطرٍ بسبب الانتهاكات والحرمان من الرعاية الصحية.
إذاً، الدراما هناك في سجون السيسي أوْلى أن تُتابع. أما دراما الشاشات في المسلسلات المطبوخة إياها فحيلةٌ تتوسّلها مشّاطةٌ في تزيين وجهٍ عكر.