دايفيد كاميرون ودومينيك دو فيلبان (1)

15 نوفمبر 2023
+ الخط -

رجلا سياسة أوروبيان يعودان إلى المشهد هذه الأيام من صلة متفاوتة بالحدث الفلسطيني. الأول، دايفيد كاميرون، يطلّ من الباب العريض، وزيراً لخارجية بريطانيا بعد أعوام سبعة من شبه اعتزال للسياسة عن عمر الخمسين، رئيساً محافظاً للحكومة ست سنوات. أطاح نفسه بنفسه أولاً، عندما قرّر إجراء استفتاء على خروجٍ كان لا يريده لبلده من الاتحاد الأوروبي. وأطاحته أيضاً الشعبوية اليمينية التي لم يقدّر كم أنها جارفة وقد ترجمت نفسها في نتيجة استفتاء بريكست فصارت حدثاً تاريخياً لا بد من استحضارها لدى كل حديثٍ جدّي عن اليمين المتطرّف والشعبوية وانفجار الهويات الوطنية والقومية في أوروبا والعالم. المهم أن الرجل تحمّل مسؤولية قراره وربما يكون قد شعر بالغربة عن حزبه وعن مجتمعه فاستقال، وكان بذلك محترَماً. أما السياسي الثاني المعني بهذين المقالين، رئيس الحكومة الفرنسية الأسبق دومينيك دو فيلبان، فـ"عودته" تحتمل مزدوجين، إذ إنها تحصل من الشباك الصغير، أو بالأحرى من الشاشات الصغيرة التي ظهر عليها في الفترة الأخيرة معلّقاً على الحدث الفلسطيني خارجاً عن قطيع "يحقّ لإسرائيل ما لا يحقّ لغيرها" وكاسراً ببغائية دارجة ومقرفة في تبرير الإبادة الحاصلة في غزّة والتشجيع عليها أحياناً، من دون أي حرج أخلاقي.
بريطانيّاً، أصبحت القصة معروفة؛ وزيرة الداخلية سويلا برافرمان نجحت في تسجيل اسمها إحدى أسوأ من عمل في السياسة على الإطلاق في المملكة، لتُزاحم بذلك بريتي باتل وبوريس جونسون. شعبوية كارهة للمهاجرين، هي المتحدّرة من أبوين مهاجرين هنديين. وعلى غرار "ومن الحبّ ما قتل"، وهو من ضمن أشياء أخرى اسم لمسلسل هندي شهير، فإنّ برافرمان أحبّت إسرائيل إلى درجة الانتحار السياسي، فشنّت حملة ضد شرطة لندن لأنها تضيّق على عصابات اليمين المتطرّف ونشاطاتهم بينما تسمح بالتظاهرات الحاشدة المؤيدة للفلسطينيين، وحرّضت عليهم وشبّهتهم بمسلحي أيرلندا الشمالية زمن الحرب الأهلية، وهؤلاء يتوقّف بقاء الحكومة البريطانية اليوم على دعمهم السياسي في البرلمان. لم يقدِر حتى ريشي سوناك أن يحتملها فأقالها، وأحلّ وزير خارجيته جيمس كليفرلي مكانها في وزارة الداخلية، وفي محاولة لإنقاذ نفسه وحزبه من خسارة تبدو مرجّحة جداً منذ الآن في انتخابات أواخر 2024 أو مطلع 2025، أتى بدايفيد كاميرون الذي يحظى باحترام وازن في بريطانيا، وزيراً للخارجية، لعله يستعيد رضى التيار المعتدل في حزب المحافظين بعد هذه السنوات الطويلة من حكم متطرّفي يمين الحزب. باشر الرجل وظيفته الجديدة بتوضيحٍ كان لا بد منه، مفاده أنه يختلف مع سوناك في أمور عدّة، لكنه يؤمن بأنه قادر على الحكم ومناسب له. ربما تكون هذه هي الترجمة التي تراعي الصواب السياسي لعبارة: سأفعل أي شيء لكي لا يخسر حزبي الانتخابات.
لا ندرك الكثير عن موقف كاميرون اليوم من حرب إسرائيل على الفلسطينيين، لكن ما يعلق في الذاكرة عنه أنه من صنف السياسيين المحترمين والنزيهين، شأنه في ذلك شأن جاره الفرنسي دومينيك دو فيلبان. والاحترام كما النزاهة هنا لا تتعلقان بما نحبّ أن يقولاه وأن يفعلاه في قضايا تخصّنا، بل هما هنا قيمتان تتصلان بتعريف العامل في الشأن السياسي، غير الشعبوي، المتّزن، غير الفاسد، المثقف ولو بالحد الأدنى، غير المتطرّف، الذي يستقيل، يعتذر، إلى آخره من صفاتٍ تصبح مع مرور السنوات أكثر ندرة. عام 2010، وصف كاميرون غزّة بأنها "معسكر اعتقال" لدى تطرّقه إلى الحصار الذي كان قد بلغ سنته الثالثة في حينها، وكان المسؤول البريطاني، في الحديث إياه، شديد الانتقاد للاستيطان. ولمزيد من الوضوح، تابع كاميرون كلامه، فجزم أنّ "لا حل لأزمة الشرق الأوسط طالما أن هناك سجناً هائلاً اسمه غزّة". هذا لا يعني أن كاميرون مناضل من أجل الحق الفلسطيني، فهو يصف نفسه صديقا لإسرائيل لكنه ظلّ يحرص، في كل مرّة يكرّر هذه اللازمة، على رفض "الاستيطان غير القانوني وما يحصل في القدس الشرقية" مثلما فعل عام 2016، وكان لا يزال رئيساً للحكومة، وهذا ليس تفصيلاً بالنسبة لرئيس حكومة بلد "أهدى" فلسطين إلى الحركة الصهيونية.
ساعات ونكتشف دايفيد كاميرون "الجديد". سيكون أمراً مثيراً أن نفهم، ونحن نتابع مواقف الرجل وزيراً للخارجية، ماذا يمكن لسنوات سبع من اعتزال السياسة أن تفعل مع احترام الذات والعقل والصدق مع النفس في قضايا سياسية أخلاقية مثل المسألة الفلسطينية.