خيانة الوسيط المصري؟
أين ذهب نتنياهو؟ ... فجر أول من أمس الثلاثاء، شنّت المقاتلات الإسرائيلية عدّة غارات على قطاع غزة، استُشهد على إثرها ثلاثة من قادة سرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، وهو ما يُفترض أن يعتبره نتنياهو إنجازاً، ويسارع إلى استثماره، لكنه ظلّ متوارياً عن الأنظار ساعات طويلة، فلم يظهر في مؤتمر صحافي، ولم يُصدر بياناً باسمه، ولم يغرّد بكلمات موجزة للمباهاة بالاغتيال، بل حرص على خلاف ذلك تماماً، أي اللجوء إلى التصريح بما يشوّش الصورة أكثر مما يوضحها. فمرّة يُنسَب إلى مصادر مقرّبة منه عدم علمه المباشر والفوري بالعملية، بل وعدم تصديقه عليها، فمن قام بذلك ليس هو ولا وزير دفاعه، بل المستشارة القانونية للحكومة بهراف ميارا، التي قالت مصادر مقرّبة من نتنياهو نفسه إنها أعطت الضوء الأخضر للعملية، بعد أن عُرضت صورة الوضع أمامها، وفقاً للمعلومات الإستخبارية المتوافرة المرفقة بتقديرات الجهات الأمنية، فاتّخذت القرار من دون أن ترى حاجة إلى دعوة مجلس الوزراء المصغّر ليقرّر بشأنها.
بعد تسريب ما سبق، يتم تسريب ما يناقضه ظاهرياً على الأقل، والقول إن نتنياهو تواصل مع مستشارين للرئيس الأميركي، وألمح لهم بأنه ستُنفَّذ عملية في غزّة، فإطلاق نحو مائة صاروخ منها يستوجب ردّاً، والمقصود الصواريخ التي أُطلقت بعد إعلان استشهاد القيادي في الجهاد الإسلامي الشيخ خضر عدنان الذي كان مضرباً عن الطعام في الأسر، فلماذا سعى نتنياهو للنأي بنفسه عن العملية، وفي الوقت نفسه تبنّاها، علماً بأن عملية في هذا الحجم لا يمكن أن تحصل من دون موافقته، بل أوامره المباشرة، خصوصاً أنها تُعدّ نقلة نوعية في العمليات العسكرية الإسرائيلية، وهي العودة إلى سياسة الاغتيالات، إضافة إلى أنها تمثل طعنة للوسيط المصري الذي توصّل إلى هدنةٍ بين الجانبين قبل نحو أسبوع بعيد استشهاد خضر عدنان، ناهيك عن كونها مصدر حرج إضافياً بالنسبة له أمام الإدارة الأمريكية التي تتسع شقة الخلاف بينها وبين حكومة نتنياهو على خلفية التعديلات القضائية؟ بمعنى أن عملية كهذه ليست توغّلاً عسكرياً طارئاً في إحدى قرى الضفة الغربية أو قصفاً لمنطقة خالية من السكان في قطاع غزّة، لا تحتاج إلى موافقة رئيس الوزراء شخصياً أو وزير دفاعه، ويمكن أن تحدُث بقرار ميداني لا سياسي، بل هي عملية كبيرة، لكونها نوعية وذات تبعات سياسية محتملة، كبُرت أو صغُرت، على علاقات حكومته بمصر والولايات المتحدة، وهو ما أكّدت صحيفة هآرتس أنه ليس صحيحاً، فقرار شنّ العملية اتُّخذ يوم الجمعة الماضي، أي قبل تنفيذها بأربعة أيام، ووافق عليه نتنياهو بحضور وزير دفاعه في اجتماع أمني وعسكري مغلق، شارك فيه كبار قادة الجيش وجهاز الأمن الداخلي (الشاباك). وبحسب وسائل إعلام إسرائيلية أخرى، كان من المقرّر تنفيذ العملية بعد يوم من الاجتماع، السبت الماضي، ولكن شنّها تأخر في انتظار ظروفٍ ميدانيةٍ أفضل، وهو ما كُشف لاحقاً، ومن شأنه إحراج الوسيط المصري وإظهاره في مظهر المتواطئ مع إسرائيل، فقد نُفذت العملية، إذا صحّ ما ذكَرَه على الفضائيات أكثر من مراسل ومحلل، بعد معلوماتٍ وصلت إلى القادة الثلاثة عن موعد مغادرتهم غزّة إلى القاهرة، فخرجوا من الأماكن الآمنة التي كانوا يتحصّنون فيها لوداع عائلاتهم، وفي تلك اللحظة بالضبط، قُصِفوا، وهذه خيانة للوسيط المصري على الأقل، ومن المفترض أن يكون للقاهرة ردّ صارم عليه.
تكشف العملية الطبيعة الانتهازية لنتنياهو، فهو تقصّد إنتاج حالة من الغموض إزاء دوره الشخصي والمباشر فيها، ربما للتغطية على ما هو أهم، وهو عدم ضرورة العملية من أساسها في ما يتعلق بما يسمّى أمن إسرائيل، خصوصاً أنها تخرق هدنة وافق عليها ورحبت بها الولايات المتحدة، لكن يبدو أن نتنياهو لا يُلقي بالاً لشيء أكثر من بقائه والحفاظ على ائتلافه الحكومي، أي إن العملية نُفّذت لصالح إيتمار بن غفير الذي أعلن مقاطعته التصويت لصالح الحكومة في الكنيست ما لم يقم نتنياهو بعملية عسكرية واسعة في الضفة الغربية واغتيال قادة المقاومة، وهو ما فعله نتنياهو جزئياً في غزّة وليس الضفة الغربية، وما أنهى مقاطعة بن غفير الذي كان من أوائل من سارعوا لمباركة العملية التي لم تنتهِ بمجرّد تنفيذها، بل قد تصبح كرة نار تتدحرج وتحرق أصابع نتنياهو وسواه.