خيارات واشنطن بعد الانسحاب من أفغانستان
لم يخرج التقدّم الذي حققته حركة طالبان على الأرض في أفغانستان أخيرا عن حدود التقديرات التي وضعها البنتاغون حول احتمالات تطوّر الوضع الميداني بعد خروج القوات الأميركية والأطلسية، مع أن انهيار القوات الحكومية في بعض مناطق الشمال جاء أسرع من المتوقع في ضوء إبداء جزء من قوات الحكومة عدم رغبةٍ في القتال، بل وانضمام بعضهم حتى، مع أسلحتهم الأميركية، إلى صفوف "طالبان"، كما حصل في بعض مقاطعات إقليم بدخشان، قرب الحدود مع طاجسكتان.
خلال العامين الماضيين، أي منذ انطلاق مفاوضات الدوحة بين "طالبان" وواشنطن، والتي انتهت باتفاق 29 فبراير/ شباط 2020 القاضي بانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، سعت الولايات المتحدة، بالتوازي، إلى إبرام اتفاق شراكةٍ في الحكم بين حركة طالبان والتحالف الحاكم في كابول، ممثلا بحكومة الرئيس أشرف غني، باعتباره السيناريو المثالي لإنهاء عقود من الصراع في هذا البلد، والحفاظ على مصالح واشنطن فيه. أما وقد فشلت إدارة الرئيس بايدن في ذلك، وفي ظل إصرارها على إنهاء أطول حربٍ في التاريخ الأميركي، بغض النظر عن التداعيات، تدخل أفغانستان، ومعها السياسة الأميركية تجاهها، في حالةٍ من الاضطراب وعدم اليقين.
وفي كل الأحوال، يبدو هذا البلد الممزق أمام عدة سيناريوهات، منها أن تتخلّى واشنطن تماما عن دعم حكومة الرئيس غني، وتتركها لمصيرها المحتوم، كما فعلت قبل نحو نصف قرن عندما تخلّت عن حكومة فيتنام الجنوبية، وتركتها تنهار أمام زحف الشماليين. الاحتمال الثاني أن تستمر واشنطن في دعم حكومة غني وتمكينها من الصمود في وجه "طالبان"، عبر تأمين غطاء جوي لها، إلى أن تيأس الأخيرة من حسم عسكري وتقبل بالشراكة. لكن هذا الأمر قد يستلزم سنوات، وخصوصا أن الزمن لا يعد عاملًا في حسابات "طالبان" التي صارت الحرب بالنسبة لها حرفة وطريقة حياة. وهناك احتمالٌ أخير، يتقاطع بنسب مختلفة مع الاحتمالين الأولين، حيث تندفع دول الجوار والدول ذات المصلحة إلى الانخراط في الصراع الدائر في أفغانستان، للحصول على موطئ قدم بعد خروج الأميركيين، فتقوم بتمويل وتسليح وكلاء محليين لها، كما حصل في سورية تماما (خصوصا في ظل تعدّد القبائل والقوميات في أفغانستان، مثل البشتون والأوزبك والطاجيك والهزارة والبلوش وغيرهم). وهناك ست دول أساسية تتطلع إلى وراثة (جزء من) النفوذ الأميركي في أفغانستان، الصين وباكستان والهند وإيران وروسيا وإلى حد أقل تركيا. وجميعها تعتبر نفسها معنيةً مباشرة بما يجري هناك.
ترى الصين الصاعدة في أفغانستان ممرّها البرّي الطبيعي إلى إيران التي باتت، بحكم اتفاقية التعاون الاستراتيجية الموقعة أخيرا معها، بمثابة "محطّة بنزين" لتغذية نهم اقتصاد الصين المتعاظم للطاقة. وتخشى الصين أيضا من تأثير التطورات في أفغانستان على أقليتها المسلمة من الأيغور. أما إيران فقد استثمرت كثيرا في أفغانستان خلال العقود الأخيرة، إلى درجة أنها كانت تدفع نفقات مكتب الرئيس السابق حامد كرزاي، وهي تعدّ أفغانستان سوقًا مهما لتصريف بضائعها، ومصدرا رئيسا للمخدّرات المستهلكة فيها، ومعنية مباشرة بمناطق غرب أفغانستان، حيث تقطن قبائل الهزارة الشيعية. باكستان أيضا تُعد أفغانستان جزءًا من أمنها القومي، خصوصا في ظل التداخل القبلي على الحدود الطويلة بين البلدين، وهي تتطلّع إلى منع الهند، عدوتها اللدودة، من تعزيز نفوذها في أفغانستان بالتواطؤ مع إيران. الهند من جهتها تطمح إلى محاصرة باكستان من خلال الحفاظ على نظام حليف في كابول، وقطع الطريق على الممرّ الصيني نحو إيران. أما روسيا فهي تسعى إلى استعادة نفوذها التاريخي في أفغانستان، ومنع الصين والآخرين من التمدّد في المنطقة على حسابها. وسنرى، على الأرجح، بعد الخروج الأميركي تقاطع مصالح روسيًا - هنديًا في مقابل محور صيني - باكستاني، في حين ستلعب إيران على المحورين، نظرا إلى مصالحها المتداخلة مع الجميع. ماذا تفعل واشنطن في مواجهة هذا الوضع؟ لا تملك، على الرغم من سحب قواتها، خيار ترك الساحة والخروج من لعبة التنافس في أفغانستان، التي باتت حرفيا في قلب الصراع على السيادة في العالم. لذلك ستبقى منخرطةً فيها بشكل ما، وستستمر في محالات الحفاظ على حكومة حليفة في كابول، سواء برئاسة أشرف غني، أو بالشراكة مع "طالبان"، أو حتى بقيادة "طالبان".