خلاصات أولى في الشهور الستة
أولى الخلاصات التي في المقدور الخروجُ بها من الشهور الستة التي تكتمل اليوم، 7 إبريل/ نيسان، على الحرب الإسرائيلية العدوانية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، أن علينا، نحن المعلّقين من أهل الإعلام والصحافة، أن نتوقّف عن الإسراف في التوقّعات وفي السيناريوهات، فلو نطلّ على حالنا، إبّان اشتعال الحرب ساعاتٍ بعد موقعة 7 أكتوبر (المجيدة لا ريب)، من على مرتفع الـ184 يوماً التي انقضت، سنَرى أنّنا كنّا فيه "منجّمين". ما لا يعودُ إلى جهلٍ أو قلّة معرفة، وإنما إلى أمريْن: أولُّهما أننا، غالباً، ما نفترض فينا الأهليّة للتنبّؤ بما سيجري وسيقع، ما إن يُباغتنا حدثٌ فارق (في أوكرانيا مثلاً). والثاني أن الذي شهدته دولة الاحتلال صبيحة ذلك السبت أكثرُ من استثنائيّ، فيصيرُ من بالغ الطبيعيِّ أن تعقبه تداعياتٌ تستعصي على التعيين والتبيّن. ولذلك ليس من الشطط في شيءٍ أن يقال إن رؤوس حكومة العدوان في تل أبيب، عندما كانوا يشيعون إن الحرب ستكون طويلة (إلى متى؟) لم يتوقّعوا فشلهم في حسمها، بالقضاء على "حماس" وإعادة الأسرى، في ستّة شهور (وما زال الفشل مستمرّاً). والجوهريّ في هذه الخلاصة، وفي أخرى ثانية، أن الذي صار في قطاع غزّة، وفي التداعيات التي واكبته في العالم، لم يكن في المتصوّر، فلئن كان معلوماً أن دولة الاحتلال، في أساسها، دولة إجرام، فإن مدى الاستباحة والتوحّش الذي أطلَقت فيه يد جيشها ليصنَع ما يريد في غزّة لم يكن في أي منزلةٍ من التوقّع أو الترجيح. وقد صحّ، من كلام كثيرٍ ثرثر فيه وزير الحرب، يوآف غالانت، قولُه، في الشهر الأول للعدوان، إن مستقبل إسرائيل ووجودها مرهونان بنتائج هذه الحرب. والبادي أن شهوة القتل المروّعة، المدفوعة بوازع الثأر والانتقام، لدى جيش الاحتلال، وعموم المجتمع الإسرائيلي (باستثناءاتٍ محدودة)، تعودُ إلى هذه القناعة، فالخسارة مستحيلةٌ، مهما كانت الكُلف، أمام "حماس" التي أقدمت في 7 أكتوبر على ما لم تكُن إسرائيل تتخيّله في أشدّ كوابيسها قتامةً.
خلاصةٌ أخرى، ليس تصويباً لأيّ نقاشٍٍ يذهب فقط إلى "حساباتٍ" أخطأت فيها المقاومة الفلسطينية، وحركة حماس تحديداً، عندما أقدمت على مفاجأة 7 أكتوبر، ومع الشعور العظيم التي يتوطّن فينا بشأن هوْل الخسارات المريعة التي أحدثها التوحّش الإسرائيلي في أهل قطاع غزّة وأرواحهم وأبدانهم وعمرانهم وأرزاقهم ومساكنهم ومستشفياتهم، ومع الإحساس الكبير بفظاعة حرب التجويع، وتحويل جزءٍ من الشعب الفلسطيني العظيم إلى جوْعى يتراكضون أمام وجبات أكلٍ تتكرّم بها غير دولة، فإن ذلك كلُّه (وغيرُه) لا يجيز أن يُغفَل عن المعجزة الحقّة التي صنعتها المقاومة، في الشهور الستة، وهي تضربُ جنود العدو وضبّاطه وعتاده، بإمكاناتٍ عسكريةٍ شديدة التواضع، وبمثابرةٍ تفوق الخيال، وبصمودٍ باهر، مع التسليم بأن جيش الاحتلال نجح في الإجهاز على إمكاناتٍ غير هيّنة للمقاومة، وقتَل قادةً وعناصر فيها، إلا أن فشل هذا الجيش في تحرير أيٍّ من أسراه المُحتَفظ بهم لدى المقاومة، وإخفاقه الماثل في خطف أيٍّ من قادة "حماس" الميدانيين، سببان كافيان للقول إن المعجزة الحقّة هي ما بعد 7 أكتوبر. وهذه مفاوضاتُ الهدنة وتبادُل الأسرى تنتقل من عاصمةٍ إلى أخرى، ولا ينكسر فيها المفاوض من "حماس" أمام مناورات الابتزاز ومراوغات الضغط العسكري، في أداءٍ يستحقّ الإعجاب، لا يُحتفى به هنا للتعمية على الفظاعات التي لا يتوقّف العدوان عن ارتكابها، وإنما للإحاطة بكل حوافّ الصورة وتمثيلاتها. وإذا فاجأتنا أخبارٌ سيئةٌ لاحقاً، لا سمح الله، عن تطوّراتٍ ميدانيةٍ في غير مصلحة المقاومة، فلن نستقبلها بغير الزهو بما بذلته المقاومة من تضحياتٍ، وما كان منها من بطولاتٍ، وسنعدّ هذا إن حدث مُخزياً لمن تواطأوا في غير بلدٍ عربيٍّ ضد المقاومة، وخذلوا غزّة وناسَها الذين كابدوا وتحمّلوا ما لا قِبل لبشرٍ أن يحتملوه.
الخلاصاتُ وفيرةٌ من الشهور الستة، ليس من اللياقة التغافل عن كثيرٍ رائعٍ شوهد في شوارع وميادين في مدنٍ بلا عددٍ في الغرب والشرق والشمال والجنوب، في مهرجانات السينما وأنشطة الفنانين، وفي أوساطٍ عديدة، في جامعاتٍ وأكاديميات، عندما انتصر الأخلاقيُّ لعدالة القضية الفلسطينية، وضد الصلف الإسرائيلي الذي تجاوز كلَّ الحدود في أثناء حربٍ ليس من الحصافة في شيءٍ أن نزيد ونعيدَ بشأن نتائج متوقّعةٍ لها، استعجالاً أو تنجيماً أو تعالُماً.