"خبر عاجل" .. التشبيح والتشاطر معاً
تسأل بعضُ الصحافة الثقافية، نهاية كل سنة، كتّابا عن أميز ما قرأوا من كتبٍ فيها. ويُشهر هذا بعضُنا في حسابات التواصل الاجتماعي، تزكيةً لهذا الكتاب أو ذاك العمل الإبداعي. وليس معهودا، إلا نادرا، أن يُسأل واحدُنا عن أسوأ ما قرأ، أو أن يُسمّي أردأ روايةٍ طالَعها. ولا نعرف في بلادنا العربية موسما سنويا لمنح جوائز لأسوأ أفلامٍ وممثّلين، كما جائزة "التوتة الذهبية" في أميركا. وينقُصنا احتفالٌ سنويٌّ، كما الذي في جامعة هارفارد، لمنح جوائز لأصحاب منجزاتٍ غبيّة، أو مخترعي أشياء غير مفيدة. ولم تُستحدث لدينا، مثلا، جائزةٌ سنويةٌ، كما التي ابتدعها أستاذٌ في جامعة كاليفورنيا، لصاحب أسوأ جملةٍ افتتاحيةٍ في عملٍ أدبي، من الكتّاب الهواة. ولا توفر أيٌّ من صحافاتِنا قوائمَ لكتبٍ تراها الأكثر سوءا كل عام، كما تفعل "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" و"الغارديان".
أجهر هنا بأن أسوأ روايةٍ قرأتُها في السنة التي انصرفت أمس هي "خبر عاجل" لصاحبها السوري نضال الصالح (الآن ناشرون وموزّعون، عمّان، 2020). تعرّفك جُذاذاتٌ عنها، إحداها في وكالة الأنباء السورية الحكومية، بأنها روايةٌ عمّا تعرّضت له حلب لمّا "عاثت التنظيمات الإرهابية فيها قتلا وسرقة وتخريبا"، فيستثير أمرُها هذا فضولا فيك، وأنت الذي تعلم أن الصالح هذا، لمّا كان رئيسا لاتحاد الكتّاب في بلده، ونائبا لأمين عام الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، أغضبه بيانٌ خافتُ النبرة أصدرته أمانة الاتحاد العربي هذا، تعاطفَ مع أهل حلب في أثناء تعرّض أحيائها الشرقية في 2016 لقصفٍ مدمّرٍ من جيش النظام، فطالب المتحدَّث عنه بسحب ذلك البيان، وبالعودة إلى شخصه وإلى اتحاده لـ "معرفة ما يجري في سورية". تتذكّر هذا، وتسأل عمّ سيكتب شبّيحٌ يفعل هذا في "روايةٍ" له عن تلك الوقائع. ونعتُ المذكور بهذه الصفة ليس من عنديّاتي، وإنما نقلته صحيفةٌ عربيةٌ عن أعضاء في اتحاد الكتّاب في سورية لمّا كان رئيسُه، عندما وقّع 156 عضوا عريضةً تطالب بخلعه، قالوا إنه "منذ تسلّمه رئاسة الاتحاد وهو يتعامل بعقلية الشبّيح، وراح يستبعد أي كاتبٍ لا يتّفق معه شخصيا، بزعم أنه متآمرٌ ومناهضٌ للنظام، حتى لو كان مؤيدا". وكانت الأجهزة إيّاها قد أقطعت تلك الرئاسة له، ثم "استُقيل" منها في أثناء تلك الزوبعة، تزامنا مع إشهار وزير التعليم العالي السوري "عقوبة اللوم" له، لادّعائه رتبة الأستاذ الدكتور، فيما هو أقلّ منها في جامعة دمشق.
تضطرّك الموضوعية (أو مقادير منها؟) إلى قراءة "خبر عاجل"، متخفّفا من معرفتك بأرشيفِ كاتِبها الموجز أعلاه، عساك تُصادف فيها شيئا من فن الرواية، وفي بالك أن أدباء رجعيين كتبوا أعمالا رفيعة، ولكن سوء الظن يبني على الشيء مُقتضاه، فالرواية هذه مثقلةٌ بالتشبيح متوازيا مع التشاطر الذي يُحاول أن يخفيه، أن يلوّنه بما قد يتوّهمه نضال الصالح توازنا. أما مبنى الرواية السردي فالتشاطر الممارَس فيه أخَذَها إلى رداءَتها الظاهرة، عندما قصد الكاتب أن يبسط تعالُمه في كتابة الرواية شروحا في صفحاتٍ غير قليلة، ولمّا أراد الرواية نصّا في نصّ، وأبلغ القارئ أن الرقيب منع إجازة نشرها، فصار الراوي يُطْلِع عليها أكاديميا صديقا له، فيكتُب هذا تعليقاتِه، من قبيل إن "أي حكايةٍ تبقى محض حكاية إن لم ترتفع إلى مرتبة الفن" (يا سلام!). ينضمّ الاثنان إلى شُعبة التجنيد في الجيش، في أثناء هجوم "المسلّحين" على حلب، فتقرأ مقاطع وفيرةً عن ما يصنعه هؤلاء في البلد. وتشاطراً، في هذه الغضون، للراوي كاتب الرواية الممنوعة (لماذا؟) أخٌ مؤمنٌ بالثورة و"بحتمية انتصارها"، لكنه "لا يحتمل السجال معه" (ص 123)، يسأل "كيف لإنسانٍ لديه أدنى شعور بالكرامة أن يسكت عن ما يجري في البلد منذ عشرات السنين"، غير أن هذا (اسمُه عز)، والذي ما أن يغادر مركزا أمنيا حتى يكون ضيفا عند آخر (ص 79) يُصاب بجروحٍ في إحدى هجمات المسلّحين. وهؤلاء يدمّرون صيدلية شقيقته.
وإلى حضورٍ مفتعلٍ للمتنبي، ونقولاتٍ عن تاريخ حلب، واستعراضاتٍ لتاريخ سورية الحديث (منزوعا منه حكما حافظ الأسد وابنه)، و...، تقع على فلسطينيّ (؟!) في جبهة النصرة جاء لتحرير سورية من النظام، ويغدر بسوريةٍ زوّجته بها "الهيئة الشرعية"، وعلى قصص حبّ خائبة، وعلى مرورٍ باهتٍ على مظاهراتٍ ضد السلطة في الجامعة، وعلى سؤالٍ لدى الراوي يستهجن استعار الطائفية في البلد "إلى حد البغضاء" (ص 74).. تطوف بمللٍ في هذا كله (وغيره)، وتكابد وأنت تقرأ عن المسلحين الأشرار، فيما النظام يحمي الناس منهم، وجيشُه ينظّف سورية من الألغام التي زرعوها (الراوي يعمل في جنديته في هذا)، ثم تغبط نضال الصالح على فضيحة نفسِه، لمّا كتب في عمله هذا الذي سمّاه رواية: "عندما تزيّف الرواية الحقيقة تصبح شاهدة زورٍ على الواقع، بدلا من أن تكون مرآة صادقة له" (ص 31) ..
بإيجاز، أرشّح "خبر عاجل" أسوأ رواية عربية في العام 2020.