حُضْن النظام السوري
الحضن، في اللغة العربية، هو رمز الحنان، والعطف، والرعاية. يُقال: فلان أيش على باله؟.. قاعد في حضن أمه! والطفل يزعل من أمه وأبويه، فيأوي إلى حضن جدته باكياً، فتترشف غضبه، وتهدهده، فينام آمناً، بينما هي تدعو الله، في سرها، أن يُبعد عنه براميلَ المجرم بشار الأسد القاتلة.
وحينما يُقْدِمُ الرجلُ على مغامرة، كشراء منزل، أو زواج، أو افتتاح محل تجاري، ويحالفه الحظ بعميل ذي أخلاق حميدةٍ، واستقامة، يقالُ له، على سبيل المجاز: هنيئاً لك، وقعتَ في حضن أمك وأبيك!
والرجل يحتضن المرأة، والمرأة تشعر بالأمان في حضن رَجلِها؛ وأحياناً يرمي الرجل نفسه في حضن امرأة يحبها، لكنها تُتْعِبُه، مثلما حصل لعبد الحليم حافظ الذي وقع في حضن شائك، فشرع يغني لنفسه بأسى: رميتْ نفسَكْ في حُضْنْ، سقاك الحضن حُزْنْ!...
وفي القدود الحلبية، يجري تصغير الحضن إلى (حضين) فيغنون: هالأسمر عود قرنفل، لا لفلفه بحضيني. ومن أشهر أغاني عصام رَجّي الفولكلورية: يا حضين، طابت لي النومة يا حضين.
والغريب أن المذيع الرياضي، المرحوم عدنان بوظو، كان يستخدم الحضن في حالة الجَمْع، فيأتي على ذكر كلمة (أحضان) أكثر من مئة مرة في التعليق على مباراة كرة قدم واحدة! كان بوظو، كلما التقط حارس المنتخب السوري جورج مختار الكرةَ يقول: وإلى أحضان الحارس جورج مختار! مع أن جورج مختار، كغيره من الناس، له حضن واحد!
وأحب أن أذكّركم أن قانون كرة القدم، في تلك الأيام، كان يسمح للمدافعين بإعادة الكرة إلى الحارس، وكان هذا يُسَهِّلُ على عدنان بوظو الإكثار من ذكر الأحضان. وإذا كان المدافعُ ذا ساق قوية، ورفسَ الكرةَ رفسةً بارعة، فإنها تتجاوز أحضان الحارس إلى أحضان المرمى! ويعلن الحَكَم عن هدف للخصوم، ووقتها، كان يبلع عدنان بوظو ريقه، ويقول:
- معليش يا شباب، لدينا وقت كاف لتعديل النتيجة.
وتدريجياً، ترتفع معه الوتيرة الخطابية، فيقول: أجل، يوجد وقت كاف لهؤلاء الأبطال الصناديد، أحفاد خالد بن الوليد، جند القائد حافظ الأسد، ولا بد أن يعدّلوا النتيجة!
ولم نكن نحن، بالمناسبة، نعرف ما علاقة خالد بن الوليد وحافظ الأسد بمثل هذا "الجول" المباغت الذي يشبه الخازوق!
وممّا لا ريب فيه أن الإعلام السوري، الذي يُعْرَفُ كذلك باسم الإعلام السكندري (نسبة إلى مؤسسه أحمد اسكندر أحمد)، هو أول مَن ابتكر مصطلح "حضن الوطن"، فمن أصل ثمانية ملايين مواطن سوري شرّدهم جيشُ الأسد، إذا عاد بضعةُ أشخاص إلى سورية، يبدأ الإعلام بالتطبيل والتزمير:
- يا لهؤلاء الشرفاء المخلصين الذين رفضوا المؤامرة، وآثروا العودة إلى حضن الوطن.
وعدا عن هذا وذاك، وتلك وهاتيك، فإن شبيحة الثورة يتحدثون عن الحضن بطريقة أنكى، وأدقَّ رقبة، فتراهم يترصّدون لأي ثائرٍ، أو معارضٍ، سبق له أن تولّى عملاً في وطنه قبل الثورة، فما إن يرفع يداً عن رجلٍ، حتى يبادروه بالقول: ألم تكن أنت جالساً في حضن النظام؟!
كتب الدكتور محمد حبش، وهو من أكثر السوريين تعقّلاً وتفهّماً لما يجري في بلادنا، على صفحته الفيسبوكية:
وفي كل يوم يطل عليّ أشخاص ليقولوا: كنتَ في حضن النظام. وكأنها خطيّة من الخطايا. أنا أستغرب كلامهم بالفعل. وماذا يعني أننا كنا في حضن النظام؟ هل كنا من سجانيه، لا سمحَ الله، أو من جلاديه أو فلاسفة حزبه أو منظّري خطاياه؟ لقد كنا نعمل في الدولة السورية.
أجل، لقد أصاب حبش، فالدولة دولتنا، ومؤسساتها مؤسساتنا، وأنا أرى أن الذين يخاطبوننا بمثل هذه الاتهامات هم الذين يؤمنون بأن حضن الوطن هو نفسه حضن النظام!
وهذا هو، بالضبط، التفكير الخاطئ.