حَمامٌ في خانيونس... وفي صحراء جزائريّة
طيّرت وكالة فرانس برس، أياماً بعد بدء العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة (18 أكتوبر)، أربع صور من خانيونس، لمبنىً دمّره قصف الجيش وشبّانٍ وأطفالٍ عند أنقاضِه وحَمامٍ بعضُه أبيض وآخر مرقّط، وثمّة بنيّ اللون، واثنان يطيران، أحدهُما أبيضُ موشّى بسواد. تضجٌ إيحاءاتٌ غزيرةٌ في مدارك الناظر إلى هذه الصور (طيّرت مثلها "رويترز")، ليس فقط بشأن الترميز الذائع عن الحمامة إلى السلام، فيما الخرابُ الذي تنطق به هذه الصور شاهدٌ على فائض التوحّش في الجيش المعتدي، بل أيضا بشأن الذي يستثيره وجود حَمامٍ عند أطلال حياةٍ غائبةٍ في المكان، ما قد يأخُذ واحدَنا إلى معاني الحنين والفقد والشجى والأسى والفراق، فثمّة ناسٌ كانوا هنا، ربما قُتلوا وصاروا تحت الرّكام، كان لهم في هذا المنزل مقامٌ وأعمارٌ كانت تمشي في زمنٍ أنهاه العدوان الغادر. وحدَهم الشعراءُ والرسّامون وأهل القصّ أقدرُ من غيرِهم على شحن المشهد الذي تحمّست له كاميرات مصوّري وكالتي الأنباء العالميتيْن بلواعج (بالفصحى المتطرّفة) الروح والقلب (المقصود أحزانُهما وأشجانُهما)، لا بما يُشيعُه الحَمام من جمالٍ في طبيعةٍ ترفل بالدَّعة وهناءة البال.
أراها صورةَ طائري الحمام يطيران، يبتعدان. لا أسمعُ هديلاً ولا شجْواً ولا صوتَ رفيف الأجنحة، وإنما هو محضُ ارتحال الطيْر عن المكان، عن الخراب الذي صار. أرى الصورة تتصادى مع قولة الشاعر الأندلسي علي بن الحصن: .../ وحثَّ جناحيْه وصفّقَ طائراً/ وطار بقلبي حيث طارَ ولا أدري. ... ليس يدري أيٌّ من الذين اجتمعوا في المكان، هناك في خانيونس، إلى أين يطيرُ الحمام الذي يغادُرهم. أرى حَماماً لم يطِر بعد، وأسألُني إن طار تالياً، أرى نهاراً بسماءٍ زرقاء فيها بعضُ غيمٍ تِشرينيٍّ، خرَقتْه، لا بدَّ، صواريخُ أو قاذفاتٌ قاتلة، أرادت دماراً هنا. هل قتلت حَماماً أيضاً، مع نسوة وأطفال وشبّان وشيوخ وصبايا فلسطينيين كانوا هنا؟ من يعرِف؟ هل يبكي الحمام؟ لا أعرف. أعرفُ أن شاعراً أعرابيّاً قديماً ناجى حماماً، وسألها عمّا شجاها، وقد جدّدت أحزانا فيه، قال: .../ وهنَّ على الأطلال من كل جانبٍ/ نوائحُ ما تخضلُّ منها المدامعُ ... والذائعُ أن الطيور لا تبكي، غير أن الشاعر رأى الحمامات تنوحُ لكن مدامعَها (عيونَها) لا تبتلّ بالدمع.
أُصادفني تخطُر إلى بالي صور خانيونس تلك وأنا أقرأُ رواية "غَرنُوة ... متاهة رفاق الظلمة" (دار خيال للنشر والترجمة، الجزائر، 2023)، أهديتُ نسخةً منها، قبل أيامٍ، من كاتبها الجزائري، عبدالله كرّوم. من كثيرٍ راقني فيها أن عنوانها اسمُ حَمامٍ رفيقِ أحد الساردين فيها، يحضُر ثم يُفتَقد، تبدو الصلةُ به نجوى وتذكُّراً وحُبّاً. الرواية معنيةٌ، في الأساس، بالتفجير النووي الذي أجرته فرنسا الاستعمارية في منطقةٍ في صحراء الجزائر (في إقليم أردار)، في 1960. ثمّة اغتيالٌ قاسٍ للمكان هنا، وفعلٌ ضدَّ أجساد الناس وأرواحهم وفضاءاتهم الوادعة، ثمّة خرابٌ لا يُحكى عنه بالوصف المباشر فقط، وإنما أيضاً بالتذكّر واستدعاء خطاباتٍ وتداخل مرويّاتٍ واشتباك مسرودات. تبدو روايةً مثقلةً بالذي تقولُه، في بعدٍ ثقافيٍّ ظاهرٍ ينهضُ على موضوعة الذاكرة الوطنية الجزائريةِ وصِيانتها. ثمّة بعضُ الصعوبة في تلقّي النصّ، غير أن ثمّة متعةٌ يُحرِزُها القارئ، وهو يستشكفُ عالم المحكي الصحراوي الجزائري، وهو يقعُ على المخاتلة في حضور الحَمام غَرنُوة واختفائه. ولمّا لم نكن نعرف الحمام الذي شوهد في صور خانيونس ذكراً أم أنثى، أو هم النوعان، فإن غَرنُوة هنا ذكر، وأنثاه الحمامة الرمادية الرشيقة ورقاء.
الحسّاني ولد مولاي الشريف ساردٌ رئيسٌ في الرواية، يحكي عن نفسه، وعن المكان والناس قبل التفجير النووي وبعدَه، كما يفعل آخرون (بينهم طبيب فرنسي)، الحمامُ مقرونٌ به. مفقودٌ بعد الذي جرى "أتذكّر غَرنُوة يفجّر هديلَه على شرفات القصبة". "أين أنت يا غَرنُوة؟". وبعد عرض فرقة فلامنكو إسبانية في دار أوبرا وهران، يقول الراوي إنه كان يشعُر إن الراقصة والمغنّي يصوّران معاناة شعبٍ معذّب، "تركتُه هناك يُحرَق ويُبادُ بواسطة غبار صامت ومرمّل، تركتُ واحةً تئنُّ تحت رزية اليورانيوم المشعّ. تركتُ الضحايا تعاني الموت البطيء". رأت الراقصة دموعََه. ثم يكتب: "جاء الأشرار ليُطيِّروا الحمام وصاحبَه وأهلَه والأمنَ والصحّة من أرضٍ وجدوها آمنةً مستقرّة".
هناك في خانيونس، طيَّر الأشرارُ الحمام. وفي صحراء الجزائر في عملٍ روائيٍّ "لا مغيث لأرض عطشى تحتضر، ولإنسانٍ يستنجدُ بالسراب". والإنسان في غزّة يستنجدُ بالسراب أيضاً.