حين لا سياسة في "كباتن الزعتري"
صحيحٌ ما قاله المخرج المصري، علي العربي، إنها عملية مونتاجٍ صعبةٌ ومرهقةٌ أن تجمع تصوير 75 دقيقة من تصوير سبعمائة ساعة أنجزت في سبع سنوات. هذا ما صنعه بالضبط لتهيئة فيلمه الوثائقي (أو التسجيلي؟) "كباتن الزعتري" الذي تبدأ اليوم، 19 نوفمبر/ تشرين الثاني، عروضٌ تجاريةٌ له في لوس أنجليس ونيويورك، ليكون الفيلم العربي الأول الذي يحظى بهذا في الولايات المتحدة (على ما انكتب). وقد يسّر مهرجان أجيال السينمائي في دورته التاسعة لنا في الدوحة، الأسبوع الماضي، أن نشاهدَه، ونلتقي ببطليْه السوريين اللاجئين، محمود داغر وفوزي قطيش، وبالمخرج الذي كان قد عمل مراسلا حربيا ومصوّرا صحافيا في العراق وليبيا، ويخصّص قسطا ظاهرا من مشاغله السينمائية لقضايا اللاجئين. ارتحل وكاميراتُه، مرّاتٍ، إلى مخيم الزعتري للاجئين السوريين في شمال شرق الأردن، والذي يضم 150 ألفا فارّين من القصف وجرائم الحرب في بلدهم. وهناك، بدا "متطرّفا" في إزاحة الشأن السياسي في موضوعهم، وهو يفتّش عن قصةٍ لفيلمه الذي أنجزه من دون سيناريو، واعتمد على تلقائية المشاهد التي كان يصوّرها، سيما وقد اختار شغف المراهقيْن، محمود وفوزي، بكرة القدم، مرتَكَزا لبناء الفيلم ومسار حكايته التي لم تتّضح في بداياتها، واستمرّ يتابعها سبع سنوات، صار اللاجئان السوريان، في أثنائها، عشرينين، متدرّبين، تلوحُ لهما فرصة تحقيق حلمهما، أن يتحرّرا من الاختناق الذي يكبّلهما داخل أسوار المخيم، ويقتل طاقتهما، وذلك في قدوم وفدٍ من "أكاديمية أسباير" القطرية إلى المخيم لتدريب كفاءاتٍ من الناشئة في كرة القدم. يسبق واحدٌ منهما الآخر إلى الدوحة، بسبب عدم اكتمال شرط السن له، ثم يلتقيان هناك، ويلعبان ويتفوّقان ..
ليست الحكاية هذه فقط، وإنما أيضا ما اشتملت عليه من تفاصيل ومشاهد غنية بالعفوية والتلقائية، وبتشخيص أحوال العنت الإنساني والشقاء الفردي والجماعي في المخيم. وذلك كله من دون أي جرعة سياسة، أو أي مشهدٍ أو حوار، في الـ 75 دقيقة المختارة من السبعمائة ساعة، يُستشفّ منها أي حنينٍ إلى سورية، أو أي كراهيةٍ للنظام الذي جعل هؤلاء الناس يهاجرون من بيوتهم وبلداتهم إلى مخيم مسيّج، يحرُسُه عساكر أردنيون، تقوم على شؤونه الأمم المتحدة التي دعمت مفوضية اللاجئين فيها علي العربي لإنجاز فيلمه (وجامعة الدول العربية أيضا). هل كان هذا مقصودا أم عفويا؟ لا يجعلك "كباتن الزعتري" تعرف. كأن المخرج يفترض أن في "التقاط" شيءٍ من "الوجدانيات" بشأن سورية، أو شيءٍ من "بغض" أيٍّ من الفارّين الذين جمعهم المخيم تجاه بشار الأسد، ما قد يخلّ بالمسار الذي انتظمت فيه مشاهد الفيلم وترابطها، واقتصارها على ما يخصّ كرة القدم، والاحتكاك بالعالم في الدوحة، وبالمسافات الفادحة بين الذي هناك في المخيم الكئيب والذي هنا في المدينة ذات الأبراج العالية، وحيث أناقة ملاعب الرياضة فيها وجمال الكورنيش ووداعة البحر فيها. وقبل ذلك وبعده، ثمّة المنظور الذي ينهض عليه الفيلم عموما، ومقولته الأساس، إن اللاجئين جزءٌ من العالم، ويحتاجون كل ما يساهم في تحقيق أشواقهم وأحلامهم، ويطلق قدراتهم ويتيح لكفاءاتهم أن تتطوّر، وأن تنجز حضورها وفاعليتها. قالها محمود وفوزي قدّامنا، في سينما فوكس في الدوحة، إن اللاجئ لا يحتاج الشفقة وإنما الفرصة. وأظنّ أن الفيلم نجح، إلى حدٍّ ظاهر، في تقديم فكرته هذه، غير أنه لم ينجح تماما في إقناع مشاهديه بأن لا صلة بالشأن السياسي في مقاربة مسألة اللجوء، وفي الاكتراث بالإنساني والفردي في حكايات اللاجئين.
شوهد "كباتن الزعتري" في عشرات المهرجانات السينمائية، وأحرز عدة جوائز في بعضها، إحداها في مهرجان الجونة في مصر. وضمن أيام قرطاج السينمائية، أخيرا، شاهده نزلاء سجن تونسي. ومن المتوقّع أن ينافس في جوائز أوسكار قريبا، بعد نيله جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل في مهرجان "هوت سبرينجر". ولعل في عروضه في العالم ما يخدم قضية اللاجئين السوريين، على صعيد الانتباه إلى وجوب الاعتناء بالمواهب والطاقات والقدرات بينهم. وقد قدّم محكيّته في مسار مشهدي تسجيلي واقعي، وبإيقاع روائيٍّ إلى حد ما. واشتمل على مشاهد بالغة الرهافة، وحارّة إنسانيا، عندما أضاءت على المفارقات، وعلى الجرح الإنساني العميق في الروح لدى أفرادٍ ممن اجتمعوا على معايشة الشقاء في مخيم الزعتري. لم يؤدّ أيٌّ منهم، كما محمود وفوزي، أي مشهد تمثيلي، تُركوا يتحاورون ويحكون ويتحرّكون، والكاميرات بعيدة أو قريبة منهم، تلتقط ما يفيد في جمع شتات قصصهم، إحداها عن شابّين أحبّا كرة القدم .. شكرا علي العربي.