حين لا تكون الغيرة مُلهِمة

20 مايو 2023

(هيلدا حيارى)

+ الخط -

يحدُث كثيرا أن أقرأ نصا أو قصيدة أو مقالا لكاتبٍ ما، فأقول في نفسي: ليتني كنتُ أنا من كتبتُ هذا؛ كيف استطاع صانع النصّ أن يخلق هذه اللغة، ومن أين أتته أفكاره؟ ويحدُث أيضا أن أبقى وقتا طويلا، حين تترك لغة أحدِهم تأثيرا قويا عليّ، أكتب وأمحو لأنني بعد كل كتابةٍ أعيد قراءة ما كتبتُ، فأكتشف أنني أقلّد اللغة التي أصابتني بالدهشة، أستعيرها لكتابة نصّ أو مقالٍ من أفكاري؛ لكن النتيجة ستكون كتابة هجينة أو مقلّدة أو ممسوخة عن الأصلية. في أثناء ذلك، تنتابني مشاعر غريبة، يمكن أن أسميها مشاعر الغيرة، من كاتب النص أو كاتبته. قد يكون ذاك الشعور مُحبطا، سيجعلني أشعر بالنقص، وبالدونية أحيانا أمام تفوّق الآخر، وبالعجز عن مواكبة لغته؛ لكم أن تتخيّلوا شعور النقص هذا كم يسبّب من الأذى النفسي لصاحبه الذي قد لا يدرك، في معظم الوقت، أسباب ما يحدث له من اضطراب في المزاج ومن قلق وتوتر وشعور بالكراهية تجاه الآخرين.

نحن نغار من نجاحات الآخرين، ومما نظنّه تفوّقا عندهم، ونحسُدهم على مقدّراتٍ نعتقد أننا لا نملكها. جميع البشر تقريبا تنتابهم مشاعر الغيرة والحسد نحو كل شيء. لكن لندع جانبا هنا الغيرة في الحب والعلاقات الإنسانية، فهذه من حالات الغيرة الأكثر تركيبا وتعقيدا، والتي قد تصل أحيانا إلى حد الاضطراب النفسي والدافع الجُرمي، نحن نسمع يوميا عن جرائم حدثت بسبب الغيرة، وهو ما يحتاج إلى بحثٍ في علم النفس الاجتماعي، لما للمجتمع وعاداته وتقاليده وللتربية من دور كبير في هذا النوع من أنواع الغيرة.

لنتحدّث إذا عن الغيرة في المسارات المهنية، في العمل ومجالاته المتنوّعة، وما يمكن أن يحدُث من خلافاتٍ بين العاملين، وبالتالي، فشل العمل نتيجة الغيرة أو الحسد أو الرغبة في التفوّق والتميز. مبدئيا، نتوافق جميعنا على أن السعي إلى التميز والتفوّق ظاهرة صحية ستؤدّي إلى إيجاد نماذج متعدّدة من البشر في مجتمع ما، لكل منهم مجاله الذي يتفوّق فيه أو يتنافس من خلاله مع غيره بهدف التطوّر والتطوير وتقديم منتج ما بمواصفات جيدة أو ممتازة. والمنتج هنا قد يكون استهلاكيا أو خدميا أو تنمويا أو فكريا أو فنيا أو أدبيا، أو أي منتجٍ يساهم وجودُه في الإعلاء من شأن الحضارة البشرية والقيم الإنسانية العليا.

الغيرة في مجالات المسارات المهنية مُلهمة، أو يجب أن تكون مُلهمة ودافعة إلى البحث عن الأفضل، سواء أكان هذا الأفضل موهبة موجودة وتحتاج إلى التطوير، أم كان مكتسبا ويحتاج إلى مزيد من التعلم والدراسة والبحث. الغيرة هنا تنافسٌ شريفٌ حتى لو كان دافعها النفسي الرغبة في الظهور والتفوّق، والاثنان من الرغبات البشرية الطبيعية، أو حتى هي رغباتٌ موجودةٌ لدى معظم الكائنات الحية (بعض الحيوانات تفرض سيطرتها وتستعرض قوتها وتميزها).

تبدأ الغيرة في التحوّل من التنافس لتصبح أشبه بالصراع، عندما يعجز أحدُنا عن لجم تضخّم "الأنا" التي ترغب في التفرّد والظهور والتملّك وحدها، من دون مشاركة الآخرين في ذلك، الآخرين الذين قد يكونون شركاء في المسار ذاته، لكن الأنا المتضخّمة ترفضهم وتحيدهم من الوجود المعنوي داخلها، ما يجعل الوعي يسعى إلى تحييدهم ماديا أيضا، فتبدأ الذات القابلة للتضخّم بالتورّم أكثر، وبالتعدّي على مساحة الآخرين ومحاولة احتلالها، وحين تعجز تلك الأنا عن التوقّف، تظهر الكراهية والعنف اللفظي، وأحيانا السلوكي، نحو الآخرين، الأمر الذي يمكنه أن يدمّر أي مسار مشترك، وهو بالتأكيد سوف يدمّر مسار صاحبه في وقت قريب.

تضخّم الأنا عادة ما يخفي خلفه شعورا خفيا بالنقص وعدم القدرة على تصديق التحقّق، أو ربما عدم القدرة على التحقّق الحقيقي، ما يشيع وهما بالأهمية، وبالتالي بأحقّية التفرّد والاستئثار والتملك، واحتلال المواقع الأولى على حساب آخرين شركاء أو أصدقاء أو زملاء. الغيرة هنا هي السبب في هذا التضخّم للأنا، لكنها الغيرة المريضة والعنيفة والمدمّرة، أو الغيرة العمياء التي تخبط بالجميع في طريقها.

في مجالات الفنون، كثيرا ما تسبّب هذه الغيرة عداواتٍ شخصيةً وإساءات بالغة، بعض أصحابها قد يستخدمون نفوذهم لمنع من يشعرون بأنهم قد يهدّدون مكانتهم من العمل أو من الظهور، أو يستخدمون وسيلة التشهير والإساءات الشخصية لتكسير الشخصية المستهدفة، وغالبا ينجحون في ذلك، فالأنا المتضخّمة تترافق بعنف متضخّم وبفقدان لكل التعاطف والإحساس بالآخرين.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.