حين كانت البيوت أسراراً

05 نوفمبر 2022

(ريم يسوف)

+ الخط -

لم تعد جملة "البيوت أسرار" صالحةً للزمن الدي نعيش فيه، إذ فقدنا حاليا كل ما له علاقة بتلك السرانية الجميلة التي كانت تعطي للحياة معنىً مختلفا، رومانسيا وعذبا. "البيوت أسرار" تعني أن حبل المودة والاحترام متين وقوي، ولا يمكن قطعه بسهولة، فما يحدث داخل البيت يبقى داخله، قد يعرف به بعض المقرّبين لا أكثر، ما يترك "للصلح مطرحا"، وما يتيح لمساحة مهمة من الاحترام والودّ أن تسود في العلاقات البشرية. ما يحدث اليوم من فضح للمشكلات الشخصية على صفحات "السوشال ميديا" وجعلها علنية، ومن استباحة لحرمة أواصر المودّة والخبز والملح وتشارك العيش مخيف. كيف يمكن لأحد أن يكتب على مدوّنة على وسائل التواصل عن مشكلة شخصية بينه وبين آخر تشارك معه حياة بأكملها، مدة قصيرة أو طويلة، أكان فردا من العائلة أم صديقا، ويترك الأمر ليكون بمثابة الفضيحة تلوكها ألسن مجهولين؟!

يشبه هذا حالة التعرّي علنا، أن تكشف كل أسرار جسدك لمن لا تعرفهم ولا يعنونك. العلاقات الأسرية والصداقات تشبه الجسد، لها أسرارُها، الجميلة منها والقبيحة. لماذا نقبل أن نعرض أسرار حياتنا وخصوصياتها لآخرين مجهولين، ونستهجن، في الوقت نفسه، من يعرّض جسده العاري علنا أمام الناس؛ مع أن نتائج التعرّي علنا لا تمسّ أحدا سوى المتعرّي، بشخصه فقط، بينما في عرض تفاصيل الحياة والأزمات الشخصية نحن نضع آخرين في مهبّ الفضيحة، ونجعل منهم أِشرارا وذئابا، ونترك للآخرين أن يفتكوا بهم، ذلك أنه حين يكتُب أحدُهم عن أزمةٍ تعرّض لها مع شخص قريب، فهو سيكتب وجهة نظره فقط، ما يجعل منه ضحيةً ومن الآخر جلّادا، لا أحد منا على الإطلاق سيكتُب عن أخطائه نحو الآخر، أيا كان هذا الآخر. حتى لو كان سيئا فعلا فثمّة تفاصيل لا يعرفها إلا أصحابها، ويشتركون فيها بالسوء أو بالشرّ. الادعاء أن أحدنا ملاكٌ والآخر شيطان محض افتراء على البديهيات، وهو هنا يشبه تسريب صور أحدٍ ما عاريا من دون موافقته بغية ابتزازه أو بغية الإساءة إليه أو بغية استفزازه لسببٍ ما.

قبل أيام، لفت نظري تعليقٌ لسيدة على منشور سيدة أخرى، تحكي فيه عن مشكلةٍ وقعت لها مع زوجها (شخصية معروفة)، تطلب المعلقة من صاحبة المشكلة ألا تكتفي بالمنشور العام على صفحة "فيسبوك"، بل أن تحوّل القصة لتصبح ضجة كبيرة في وسائل الإعلام. فكّرت وقتها بكل الانحطاط الذي يُمارس في الإعلام العربي الذي يضجّ بفضائح عن المشهورين من فنانين وسياسيين وغيرهم، حتى يكاد الإعلام العربي كله تقريبا يتحوّل إلى إعلام الصحافة الصفراء، لا يقدّم سوى الفضائح بعد التخلّي عن دوره الأساسي في نقل المعلومة أو التوجيه أو رصد الأخبار المهمة أو الترفيه الراقي. لكن هل يتحمّل الإعلام والقائمون عليه وحدهم المسؤولية عن هذا التردّي؟ في الواقع، رغم أن القائمين على الإعلام يتحمّلون المسؤولية المباشرة في هذا الواقع الضحل، فإن من الإنصاف أيضا القول إننا جميعا مشتركون في ما وصلت إليه الحالة، فحين تلجأ الشخصيات العامة أو النخب إلى عرض وقائع حياتهم ومشكلاتهم الشخصية على "السوشال ميديا" والمدوّنات العامة المفتوحة للجميع، لا لمجموعة مختارة فقط من البشر، فإن هذا يعطي ضوءا أخضر لوسائل الإعلام لتحويل القضية الشخصية إلى "ترند عام" يتداوله مئات الآلاف من البشر الذين لا يشعرون، في حالةٍ كهذه، بأنهم مجرّد متلصّصين على الحياة الشخصية لأحد، فصاحب القضية أباح ذلك لهم، وأباح أيضا الفتك بطرف آخر قد لا يُعجبه أن تكون حياته الشخصية مفتوحةً للجميع.

تصادفنا أحداثٌ من هذا النوع يوميا على وسائل التواصل والإعلام المكتوب والمرئي والمسموع، وبات من لا يهتمون بأخبارٍ كهذه محاصَرين بأخبار الحياة الشخصية لفلان وعلتان، والمشكلة أن فئاتٍ كثيرةً من البشر تتعامل مع الإعلام بوصفه يقدّم الحقيقة المطلقة، وتتعامل مع الشخصيات العامة بوصفها الأنموذج الدي يجب الاقتداء به، ما يجعل سهولة التخلّي عن قيم، كالحفاظ على أسرار البيوت والخلافات الشخصية وصون الخبز والملح، قيما كلاسيكية لا تتناسب مع حداثة عناصر الاستهلاك والاستعراض والاستباحة السائدة حاليا، وتجعل من أصحاب القيم مذنبين ومتّهمين، لمجرّد أنهم يصمتون ويرفضون التدخل في حياتهم الشخصية.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.