حينما تشعر بالضعف

22 فبراير 2024

(محمد حرب)

+ الخط -

قد يكون الضعف جسدياً أو نفسياً أو مادياً أو حتى زهقاً من الكون، وما فيه من أقارب وأصحاب وأحباب. عند هذه النقطة الغامضة، عليك بالفعل أن تخفّف من أحمال طموحاتك، كما يخفّف النظام من حمولته الكهربائية، وعليك أن تكون موضوعياً، ولا تحلم بأن تشتري سنّارة لصيد السمك من النهر، إلا إن كنت صبوراً بما يكفي، ولا تحلم بشراء قيراطيْن في أرض رخيصة كي تربّي البطّ والإوز وتزرع النخيل الذي تحبّه، بصرف النظر عن ندرة المياه الجوفية أو صبرك القليل جدا على طول عمر النخلة أو متى تجود بالبلح. 
ولكن عليك أن تكون حليماً مع قدراتك الجسدية، وأن تكون باسماً في المقهى، كي لا تحمل فوق كتفيك عداوة ما أكثر مما تحتمله؛ ففي المقهى، وهذا هو المضحك، تكون العداوات لا عن تجارة ولا حتى عن سوء فهم، ولكن "رمي جتت"، كما يقال. وإن كان الأمر على ذلك في المقهى، تلك الشراكة البسيطة جدا ومحدودة الوقت أيضا، إذن عليك أن تكون عاقلا وطيبا كما يقال، وتشاهد مع زوجتك أفلام ماري منيب ومسلسل "العطّار وبناته التسع" للمرّة الخامسة، ولا تتذمّر أبدا حتى وإن جاءت بعد المسلسل مسرحية "سكّة السلامة"، وبعدها دخلت على عمل الكيك والسردين والمسقّعة، فحاول أن تضحك حتى وهي تناولك كيس القمح كي تذهب إلى الحمّام.
عادةً يكون الإنسان قويا حينما تتوالى على رأسه الانتصارات، وأنت لم تسع إلى أي نصر في أي يوم، وكنتَ تفضّل الهروب اللطيف دائما، فلماذا بعدما كبرت تفكّر في تجاوز هذه الأزمات بخطواتٍ جريئة عليك أنت الهادئ دوما. دائما كنت تحسّ، وأنت تتأمل الضعف أنه يشبه حكمة ما وتبتعد قدر الإمكان عن المناكفات، كي تتأمل كونك المجرّد بعيدا عن الثارات، وتأخذ ثأرك بالكتابة أولاً بأول، تلك الكتابات التي تنام في ما بعد وحيدة في أدراجك مكتفيا بالسلامة فقط، وكأنها مدّخراتك الجافة في بنوكك المجرّدة والتي لا تنتظر منها نفعا مباشرا خلال عمرك الذي جاءك هدية من الله وحده، فاكتفيت بالسنّارة والسمك القليل والرجوع قبل الظهيرة إلى البيت، كي ترى حمّامك، وتسد تلك الثغرات في الأسلاك والتي صنعتها القطط ليلا.
كنتَ دائما تفلسف أكل القطط حمائمك الزغاليل بأن الطبيعة قاسية على نفسها كي تتعايش باقي الكائنات وتُراق الدماء، فلماذا أنت فقط الضعيف الذي تشتهي القطط زغاليلك؟ وفي النهاية، تضحك على ثورات فقراء الأفارقة، حينما يصنع عساكرها ثوراتٍ صغيرة أخرى مشابهة وميادين أخرى بمذيعين آخرين وثوّار آخرين "من تحت بير السلم"، وشعارات أخرى، كي تظل أيديهم فوق مناجم الألماس والرصاص وأمن البلاد والعباد، وتنبُت على الجهة المقابلة والميادين المقابلة وفي أيام قليلة جدا ثورات مصنوعة تشبه الثورات، وشارات مصنوعة تشبه الشعارات، حتى تهدأ الأحوال في تلك البلاد، وتعود تلك الانقلابات المصنوعة بقرّاء آخرين وبشعاراتٍ أخرى وبمنظّرين آخرين وبدساتير أخرى وبمفسّرين للأحاديث آخرين، ولا تستطيع حينئذ أن تضحك مثل ضحكات ماري منيب ولا حتى نصفها.
أمس، كنت تنام في فندق قديم جدا بالمنيا مرسومة بسقفه القديم جدا تلك السفن وتلك الأشجار المائلة على مياه النيل من أكثر من مائة سنة بكثير، والأسقف عالية ومهيبة والأبواب هي الأخرى، والباركيه. والغريب أن البطاطين كانت هي نفسها منذ ثلاثين سنة والوسائد. وحده التليفون القديم "تليفون العمدة الموصول بالغرف" قد غاب تماما، وتساءلتَ، مع نفسك: أين ذهب التليفون وأين ذهبت يافطات التأييد في الميدان وقد كانت بالمئات منذ شهور، كيف تطوى الصفحات في بلداننا بهذه الهمّة والسرعة والنشاط وأنت ما زلت تفلسف الضعف وتعتبره حكمةً خفية؟
الحياة بالفعل يجب أن تعاش كما يقال، والعصفور هذا الصغير يجب أن يتحايل على رزقة من فوق رخام المقهى سعياً وراء الفتات، وصاحب صندوق الورنيش هكذا، والفلاح هذا الذي لا يمتلك أرضا وترك قريته ويبيع المناديل، وصانع الفطائر في الدكان المقابل، وحتى محلّ "عطور العبادلة" والذي دائما تراه ولا ترى العطور أبدا، لماذا دائما حينما نشعر بالضعف نرى كل الحياة هامدةً، وكأنها تشاركنا بروحها هذا الضعف؟، هل نفعل ذلك دائما كي نعيش بقية أعمارنا في سعادة ما وقد حصلنا عليها من حنك السبع في أيامٍ يقول فيها الجميع "يا حيط دارينا"؟

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري