حياة منزوعة الرعب والقلق

13 نوفمبر 2023
+ الخط -

يُجمع علماء النفس على أن الحروب والصراعات والنزاعات المسلحة تولّد أمراضاً عقلية ونفسية، عميقة الأثر في نفسيات البشر، حتى الذين يتابعون مجرياتها عن بعد من خلف الشاشات الذين قد لا يدركون خطورة تأثيرها الكبير على سلامتهم النفسية والعقلية، حتى تظهر عليهم مع الأيام مظاهر الاضطراب من نوبات ذعر متلاحقة وإحساس دائم بالغضب والقهر والحزن، وتمكّن المشاعر العدائية والرغبة في العزلة والابتعاد عن المجموع المنهمك بالتنظير وتقاذف التهم مع المختلف. وتسيطر عليهم حالة من الشلل والخدر النفسي، تؤدّي بهم إلى العجز عن الإحساس بمتع الحياة الصغيرة، تحت طائلة الإحساس المقيت بالذنب، إذا ما داهمتهم لحظة فرح عابرة. أما من يعيشون تحت القصف والتدمير فالتأثير أقسى وأصعب وأمرّ بما لا يقاس، خصوصا على الصغار منهم. وقد أكدت دراساتٌ أن معالجة الصدمات التي تسبّبها الحروب على الأطفال، تكون أكثر صعوبة، لأنهم لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم. ولا يدركون المعنى وراء الأهوال التي يختبرونها لمجرّد وجودهم في بقعةٍ جغرافيةٍ ما، ولا يفهمون تعقيدات حالة الحرب أو مبرّراتها، ويتحمّلون آثارها الفظيعة من فقدان الأهل والحرمان من التحصيل الأكاديمي، علاوة على انعدام احتياجات الحياة اليومية من مأكل وملبس ومأوى، ما يفقدهم الإحساس بالأمان والثقة بالآخرين وبالمستقبل، فيكون جيلا مصدوما مرتبكا غير قادر على التكيف أو الإنجاز، مع ميل إلى العنف وسيلة وحيدة للتعبير، ردّة فعل على ما تراكم في نفوسهم من مشاهد حربٍ بالغة الوحشية، من الطبيعي أن تترك أثرا غائرا، من المستحيل زواله مع مرور السنين، ما يجعل القلق على مصير من تبقّوا من أطفال غزّة المسحوقين أصلا، المنهوبة طفولتهم والمصادرة حقوقهم.
والقلق في هذا الشأن ضرورة إنسانية ونتيجة بديهية لكل صاحب ضمير حيّ، ومسؤولية على المجتمع الدولي المتواطئ تحمّل تبعاتها الثقيلة، ولو من باب التكفير عن ذنب الصمت المريب، في ظلّ هذه المأساة التي طالت فصولها إلى حدٍّ يصعُب احتماله، فالناجون من نيران القصف ليسوا ناجين تماما، ولا يمكن أن نعتبرهم محظوظين لمجرّد أنهم أفلتوا من قصفٍ أتى على بيوتهم وأجهز على أرواح أحبتهم، وخلّفهم وحيدين في هذا العالم البارد القاسي الموحش عديم الذمّة والضمير، مطلوب منهم أن يمضوا وكأن خساراتهم الشخصية بالأحبة التي غيّرت حياتهم إلى الأبد مجرد أرقام في إحصائيات باردة مجرّدة لأعداد القتلى والبيوت المدمّرة. مطلوب منهم أن ينسوا كل ذلك المقت، كأنهم لم يسلبوا كل شيء، وأن يستعيدوا توازنهم النفسي وقدراتهم العقلية وسلامهم الداخلي، وأن يتخلّصوا من صدماتهم النفسية الجسيمة، ويتفهموا دوافع العدو الغاشم، طفل الغرب المدلل الذي امتلك الحقّ في العبث بالأرواح والممتلكات، من دون أن يزعجه أحد، ولو بكلمة عتاب تجرح مشاعره الرقيقة المرهفة!
يمضي العالم غير الحرّ في بذاءته، غير معنيٍّ، رغم ادعاءاته الكاذبة، بالاكتراث بما يرتكب بحقّ أطفال غزّة ونسائها ورجالها من بطش وانتهاك وإجرام ممنهج، يتوقعون منا اعتياده والتطبيع معه حقيقة سوداء على الأرض، من دون أن نعاني من اكتئاب جمعي، استهلك طاقتنا، على الغضب والحزن، فيما الانتظار يقتلنا للحظة انفراج إعجازية تضع حدّا لهذا الكابوس الثقيل الممتدّ، عسى أن يحظى هؤلاء الصغار بالحياة الآمنة منزوعة الرعب والقلق التي يستحقّون نيلها، وفق المواثيق والتشريعات الدولية التي تنصّ على حماية حقّ الطفل في الحياة، كي ننتمي حقا إلى قيم الإنسانية التي يزعم الغرب تبنّيها زورا وبهتانا وتحايلا مكشوفا لا ينطلي على طفلٍ غزّي، اختبر المرار بكل أصنافه ولا يزال!

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.