حمّى الاقتراب من الأسد
ازدادت اتصالات نظام بشار الأسد مع المحيط العربي بشكل محموم، مع قرب موعد انعقاد مؤتمر القمة العربي في الرياض، وانتشرت حمّى الاقتراب من النظام بين المسؤولين العرب، وبشكل متزامن، فتابعنا وزراء خارجية يزورون دمشق واتفاقيات إعادة علاقات، حتى امتلأت مفكّرة الوزير السوري، فيصل المقداد، بالمواعيد، ووجدت وزارة الخارجية السورية ما تفعله حيال ركود استمرّ أكثر من عقد، بعد أن كان الوزير السابق، وليد المعلم، يكيل التهديدات والوعيد إلى كل دول العالم، ولم يستثنِ التي تتحدث اليوم عن التطبيع. لا يبدو الأمر كأنه وليد هذه اللحظة، فالتحضير كان طويلا وشاقّا، وربما قادته روسيا، في وقت من الأوقات، تحت عناوين إعادة الإعمار. وقد تواصلت، وعلى مستويات عالية، مع قادة دول خليجية في الفترة ما قبل الحرب الأوكرانية، ولكن الولايات المتحدة كانت حينها حازمةً في الوقوف في وجه هذه المحاولات، من باب إحباط الخطط الروسية لإحداث اختراقاتٍ في الخليج العربي، وقد كانت لدى بعض الدول الخليجية أولويات أخرى. ويبدو أن الانحسار الظاهري للولايات المتحدة في الشرق الأوسط لصالح دور أهم لها في بحر الصين والتصدّي لأكبر تحدٍّ يمكن أن يواجه أميركا في الفترة المقبلة، جعل دول المنطقة تتجاوز بعض الخطوط مع الولايات المتحدة، كاتفاقيات خفض إنتاج النفط، وأيضا الاقتراب أكثر من النظام الذي تعدّه أميركا ساقطا، وتحث على مقاطعته، وتصدر التشريعات المتلاحقة لعزله تمهيدا لإسقاطه نهائيا.
بعد غزو أوكرانيا، توقفت المحاولات الروسية عن تسويق النظام، وتفرّغت للاهتمام بإدارة حربها العسكرية على الجبهات، وحربها السياسية مع أميركا وحرب الطاقة مع أوروبا. وأوجد هذا الانشغال الروسي ميدانا فارغا للصين لبداية نشاط سياسي دولي. وما زاد من الفرصة هو الإحجام الأميركي، فنشطت الصين، وأنتجت تقاربا بين قطبين هامين في المنطقة، السعودية وإيران. ومن المنطقي أن تنعكس عن هذا التقارب تأثيراتٌ كثيرة في اليمن وسورية ولبنان، وهي ميادين لكل من السعودية وإيران نفوذ كبير فيها، حيث يمكنهما أن يؤثّرا على مراكز اتخاذ القرار هناك. وظهر التأثر الأولي بهذا التقارب في سورية، مع بدء محاولات دمج النظام في محيطه من خلال تصريحات مسؤولي الدرجة الثانية في السعودية، بداية، ثم ارتفاع مستوى هذه التصريحات، إلى أن وصل إلى درجة استقبال وزير الخارجية السوري في مطار الرياض. سبقت ذلك، وفي وقت مبكّر قبل سنوات، محاولاتٌ إماراتية لم تجد صدى لها. ولكن مع ظهور الاهتمام السعودي والحماس المصري، صار الأمر يبدو حقيقيا أكثر، وبدأ النظام يشعر بأنه قريبٌ جدا من الجلوس مرة أخرى في مقعده القديم في جامعة الدول العربية.
تبدو السعودية راغبة في دورٍ أكبر في المنطقة، ولعل قيادتها الجديدة ترغب في لعب الدور الأول، وهو أمرٌ يتطلب حل عقباتٍ كثيرة مع دول الجوار العربي والإقليم كله، فهناك تركيا وإيران ومصر. وقد شهدت الدبلوماسية السعودية نشاطا على جبهة هذه الدول، وتحسّنت العلاقات بشكل مضطرد، وتعزّز ما كان منها جيدا في الأصل. وخلال محاولة احتلال الدور الأول، تم القفز فوق المشكلات الثنائية، وبقيت الشؤون الداخلية للدول التي ما زالت عالقة في تبعات الربيع العربي، وشكّلت أسواقا يمكن أن يجد فيها من يرغب في لعب الدور القيادي الأول ميدانا مناسبا. وبما يشبه الخروج من تحت الثوب الأميركي، عقدت السعودية اتفاقيات خاصة مع الصين، عرّابة إعادة علاقاتها مع إيران.
فيما يخصّ تنظيم البيت العربي، تعتقد السعودية أن إعادة سورية إليه سيعزّز مكانتها بوصفها لاعبا رئيسيا، ولكن تبنّي وجهة نظر النظام بأن دول الجوار هي سبب استمرار المعاناة السورية لن يفيد في حل المشكلة، لأن الحرب في سورية تتعلق ببنية النظام نفسه، والحقيقة أن "القيادي الأول" يجب أن يدفع في تغيير هذه البنية، ليتغيّر كل شيء بعدها.