"حماس" وتحدّيات ما بعد السنوار
استُشهد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار (1962- 2024) بعد رحلة جهادية طويلة وشاقّة في مواجهة بطولية ضدّ قوات الاحتلال الإسرائيلي، وبعد مضي أكثر من سنة على تنفيذ معركة طوفان الأقصى وقيادتها، وما أعقبها من فتح جبهات وتصعيد متزايد يجعل المنطقة قاب قوسين من انفجارٍ إقليمي واسع. وهذا يطرح عدة أسئلة: هل استشهاد السنوار سيُؤثّر سلباً في حركة حماس، وفي كتائب الشهيد عز الدين القسام تحديداً، بخاصّة بعد اغتيال عدد من قادتهما؟ وهل تستطيع "حماس" تجاوز هذه التحدّيات المستمرّة في ظلّ المعركة التي تخوضها؟... أسئلة عديدة، وغيرها، تُطرح. بعضها يُثير الشكوكَ، وبعضها الآخر المخاوفَ، ولكنّ الثابت في تلك المعادلة، بحسب بيان "حماس"، أنّ التاريخ سيدوّن أنّ السنوار "كتب السطر الأول في حرب التحرير ونهاية الاحتلال".
يفتح يحيى السنوار في روايته "الشوك والقرنفل" (2004)، التي كتبها في سجن بئر السبع، البابَ على مسيرة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال؛ قهراً ومعاناةً واضطهاداً وفقراً ومقاومةً واستشهاداً. فبين إبراهيم الصالح (بطل روايته) وبينه المصير المشترك، الذي ينتهي بالشهادة. الأول بقصف طائرات الأباتشي لسيارته، والثاني في مواجهة لم يستسلم فيها. وبعد استشهاد الصالح خرجت الجماهير الغفيرة لوداعه، أمّا السنوار فاعتقلت قوات الاحتلال جثمانه لتبقى القضية مفتوحةً على مصراعيْها.
استشهاد السنوار وآخرين نتيجة طبيعية للنهج المقاوم الذي انطلقت من أجله حركاتُ المقاومة (والإسلامية منها) في فلسطين
استشهاد السنوار وآخرين نتيجة طبيعية للنهج المقاوم الذي انطلقت من أجله حركاتُ المقاومة (والإسلامية منها) في فلسطين. وبحكم وجود الاحتلال الإسرائيلي، ظلّ الجانب العسكري/ الجهادي طاغياً على مسيرة هذه الحركات، وإن رافق ذلك حضورٌ في ميادين عديدة، اجتماعية وجهادية وسياسية.
وعلى الرغم من اغتيال جيش الاحتلال الإسرائيلي السنوار، بعد أكثر من عام على "طوفان الأقصى"، وبعد ملاحقة وتتبّع حثيثَين له، وفي مواجهةٍ قاتل فيها حتى الشهادة، فإن "إسرائيل" لم تُحقّق أهدافها الكُبرى والمُعلَنة من حرب إبادة قتلت وجرحت فيها ما يزيد عن مائتي ألف فلسطيني، ودمّرت أكثر من 80% من مباني قطاع غزّة ومشآته. وإلى هذا يشير مسؤول "إسرائيلي" في حديث نقلته صحيفة إسرائيل اليوم، إلى أنّ "إسرائيل" لم تحقّق أهداف الحرب بعد قتل السنوار، فـ"حماس" لا تزال تتمتّع بقوّة عسكرية، وتسيطر مدنياً على القطاع، وتحتجز أسرى.
والصورة الغالبة في داخل "إسرائيل" أنّ رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، يحقّق إنجازات عسكرية تكتيكية في هذه الحرب، لكنّه ليس حريصاً على عدم تبدّدها، من خلال تأقلم "العدو" (المقاومة) معها، وتحقيق نجاحات فيها، يمكن أيضاً أن تقود "إسرائيل" إلى فشل إستراتيجي كبير. بناءً عليه، يرى كُتّاب ومُحلّلون ومسؤولون إسرائيليون أنّ اغتيالَي حسن نصر الله ويحيى السنوار يجب أن يكونا منطلقاً للبدء بعملية دبلوماسية، تُؤدّي إلى إنهاء الحرب في جبهتَي غزّة ولبنان، عبر تقويض قوّة وقدرات "حماس" العسكرية والسلطوية، ونزع سلاح حزب الله مع تعديلات على قرار مجلس الأمن 1701، وإدخال قوّة متعدّدة الجنسيات تحلّ مكان قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل)، ومراقبة جوّية وبحرية، مع أحقية "إسرائيل" في التوغلّ إلى لبنان في حال خرْق الاتفاق.
لا حركات المقاومة تراجعت عن أهدافها، ولا "إسرائيل" استطاعت تقويض أو إنهاء قدراتها، ولم تستطع إنهاء فكرة المقاومة ضدّها
يبدو أن "إسرائيل" لم تتعلّم من تجاربها السابقة في اغتيال قادة حركات المقاومة، القيادي في حركة فتح أبو جهاد الوزير (1988)، والأمين العام السابق الأسبق لحزب الله عباس الموسوي (1992)، والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي فتحي الشقاقي (1995)، والأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى (2001)، ومؤسّس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين (2004)، ورئيس المكتب السياسي لـحركة حماس إسماعيل هنية، وحسن نصر الله ويحيى السنوار (2024). فهي لم تُحقّق ما تهدف إليه، فلا حركات المقاومة تراجعت عن أهدافها، ولا "إسرائيل" استطاعت تقويض أو إنهاء قدراتها، ولم تستطع إنهاء فكرة المقاومة ضدّها.
يكتب محرّر الشؤون العربية في صحيفة هآرتس جاك خوري (وهو ما أشار إليه أيضاً ستيفن م. والت، في مقالة نشرتها "فورين بوليسي")، أنّ "التاريخ يُؤكّد أنّ اغتيال قادة في منظّمة مثل "حماس" لن يؤدّي إلى انهيارها أو تغيير جوهري في أيديولوجيتها أو سلوكها". ويضيف خوري أن "منظّمات مثل "حماس" تعرف كيف تتعافى من خسارة قادتها وتنتج قادةً جدداً"، لافتاً إلى أن "الفوضى في غزّة والوقت الذي ستحتاجه للتعافي قد يُعرّض الرهائن للخطر بشكل أكبر".
ويشير ستيفن م. والت إلى أنّ نتنياهو ووزراءه اليمينيين المتطرّفين استخدموا الحرب على غزّة ولبنان (وكذلك استجابة أميركا المطلقة لطلباتهم وتهاونها اللامتناهي مع أفعالهم) لتصعيد العنف ضدّ الفلسطينيين في الضفة الغربية وقضم المزيد من الأراضي المحتلّة، جزءاً من حملتهم طويلة الأمد لإنشاء ما يقولون إنّها "إسرائيل الكُبرى". وأشارت صحيفة يديعوت أحرونوت إلى تقديرات في جيش الاحتلال الإسرائيلي، تفيد بأن "تطهير قطاع غزّة من البنية التحتية العسكرية لحماس سيستغرق من خمس إلى عشر سنوات من القتال البرّي، بمعدلات متفاوتة". وتتزايد المخاوف من أن تتحوّل صورة المجازر وحرب الإبادة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة والضفة الغربية المحتلّة، على الهواء مباشرة، صورةً غير مؤثّرة في واقعنا المُعاش، بهدف تنميط هذه المجازر والاعتياد عليها. وفي هذا السياق، يأتي تصنيف الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزّة منطقةَ "قتال ثانوية"، وارتكابه أكثر من 3695 مجزرة موثّقة بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، شملت مستشفياتٍ ومدارسَ وأماكنَ سكنيةٍ، بهدف اعتياد رؤية مشهد نحر وحرق وتجويع وإبادة المدنيين من الأطفال والنساء.
أمسك السنوار سنوات بالخيوط الكثيرة والمُتشعّبة لحركة حماس، وأثّر في مسيرتها، لكنّ تجاوزه ليس مستحيلاً
وفي ظلّ حرب الإبادة ضدّ المدنيين الفلسطينيين، واشتداد الفعل المقاوم، السؤال الذي يطرح نفسه: هل سيكون لاستشهاد السنوار تداعيات سلبية على حركة حماس وجناحها العسكري؟ أو بين الداخل والخارج؟ أو ستزداد الضغوط الخارجية عليها بهدف تطويعها؟ ... أسئلة عديدة ومعقدة من المهم إلقاء الضوء عليها، ووضع الإجابة عنها ضمن إطارها الصحيح، وقراءة للأحداث صائبة. فمن الواضح أنّ استشهاد السنوار سيُلقي بظلاله السالبة على حركة حماس، فهو شخصية تاريخية فيها، وأحد مؤسّسي جناحها العسكري، وأسير سابق، ونقطة التقاء واجماع بين الجناحين السياسي والعسكري، وأمسك لسنوات بالخيوط الكثيرة والمُتشعّبة للحركة، ما يجعل لذلك تأثيراً واضحاً في سياق مسيرة "حماس" السياسية والعسكرية، لكن ليس من المستحيل تجاوزه. فـ"حماس" تتمتّع بقوة وتماسك داخليين. ويُحدّد القيادي فيها موسى أبو مرزوق، في دراسة له نشرها مركز الزيتونة للدراسات تحت عنوان "حماس: قراءة وتقييم للتجربة"، جملة عناصر لهذه القوة، منها: الشورى، والعمل المؤسّسي التخصّصي، وعدم الارتهان لسياسات خارجية، والحفاظ على مؤسّساتها في تحديد قراراتها وتوجّهاتها، والفصل بين السلطات وغياب القيادات الشمولية، واعتماد الانتخابات قاعدةً للتصعيد القيادي في مستوياته كلّها، والتواصل بين القيادة والقاعدة... ويُجمِل أبو مرزوق ذلك في: التربية الداخلية، واللحمتَين التنظيمية والمؤسّسيّة، وشرعية القيادة.
هذه المحدّدات معمول بها، أو بأكثريّتها في "حماس"، سيّما أنّها حركة مقاومة، وجزء كبير من عملها كان وسيبقى سريّاً، لكن بعد استشهاد السنوار أصبحت أوضاعها أكثر تعقيداً، وأقرب إلى العودة إلى الجذور الأولى بما يُؤخّر (وربّما يمتصّ) المنافسات الداخلية إلى حدّها الأدنى، ويرفع من قيمة العمل الجماعي والمؤسّساتي بداخلها. ولكن يبقى التحدّي الأكبر أمامها وقف إطلاق النار، وما يستتبع ذلك من تحدّيات كبرى.