حرب الإبادة والإلغاء وتعقيد الصراع
من غير الجائز التعاطي مع المرحلة الحالية من الصراع المشتعل مع الكيان الصهيوني وداعميه، بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، وفق القواعدِ والأسس السابقة. فالمرحلة تجاوزت ذلك، وعلينا أن نتعامل مع هذه المرحلة وفق أسسٍ وقواعدَ ورؤيةٍ مختلفةٍ، تدرك واقعَ الصراع وتحدّياته وأبعاده؛ إذ لا يكفي توصيف الواقع، على أهمّية ذلك، بل يجب أن تستتبع ذلك رؤيةٌ واضحةٌ لمواجهة التحدّيات، وتحويلها فرصاً، أو التقليل من نتائجها السالبة في القضية الفلسطينية.
أصبح واضحاً للعيان أنّ معركة طوفان الأقصى وما بعدها قد أدخلت القضية الفلسطينية وشعبنا الفلسطيني في مرحلةٍ جديدةٍ من الصراع، لها شروطها الخاصّة، وتحدّياتها، والتي ستتحدّد وفق التعاطي معها مآلات القضية ومستقبلها. إذ لا يكفي تحديد مكامن الأخطار التي تتعرّض لها فلسطين وشعبها، بل يجب التعاطي مع هذه الأخطار التي تُهدّد حاضرَ القضية ومستقبل شعبها، برؤية فلسطينية واضحة لطبيعة الصراع مع المشروع الصهيوني؛ من حيث واقعه، وتناقضاته، وتحالفاته، ومآلاته المتوقّعة حاضراً ومستقبلاً، وبما يُصعِّد عملية الصراع، ويُعقِّد حسابات الاحتلال في حسم الصراع لصالحه.
جرّب الفلسطينيون على مدار الصراع أشكالاً مختلفةً في مواجهة المشروع الصهيوني: التظاهرات، وانتفاضة الحجارة، والعصيان، والعمليات الاستشهادية، وعمليات الدهس والسكاكين، والمواجهات النوعية... وصمدوا في العديد من الحروب والمواجهات، وبادرت حركتا حماس والجهاد الإسلامي وفصائل فلسطينية أخرى بمعركة "سيف القدس"، وصولاً إلى معركة طوفان الأقصى، التي أدخلت الصراع الفلسطيني الصهيوني مرحلةً جديدةً، من ناحية المسار والتعقيدات، وما سينبني عليهما لاحقًا من مآلاتٍ ونتائجَ. فما يجري على أرض قطاع غزّة هو الجزء الأكبر من حرب الإبادة التي تستهدف الفلسطينيين؛ قتلاً وتهجيراً واقتلاعاً وتدميراً لكلّ مناحي الحياة.
معركة طوفان الأقصى وما بعدها أدخلت القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني في مرحلةٍ جديدةٍ من الصراع
أمّا ما يجري في الضفّة المحتلّة فهو التطبيق العملي لخطّة الحسم التي أعلنها الوزير في حكومة بنيامين نتنياهو بتسلئيل سموتريتش منذ 2017، وفي جوهرها القضاء على الهُويَّة الوطنية الفلسطينية باعتبارها النقيض لإسرائيل، والسيطرة على أكبر مساحةٍ ممكنةٍ من الأرض بأقلّ كثافةٍ سكّانيةٍ من أصحاب الأرض.
لم يكن استخدام الكيان "الإسرائيلي" حرب الإبادة والردع ضدّ الفلسطينيين وليد لحظة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، إنّما نتيجة التحوّلات الجذرية نحو التطرّف (اغتيال إسحاق رابين)، والصعود الواضح للتيّارات اليمينية الدينية والفاشية، والتي تمظّهرت في نتائج الانتخابات، وفي تركيبة الحكومات المُتعاقِبة. وأجاد رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو قراءةَ واستخدامَ التحوّلات الجارية داخل "المجتمع الإسرائيلي" في التوجّه نحو المزيد من التطرّف والانغلاق واليمينية، وإعلاء شعار "الأمن أولًا"، وإغلاق باب التسوية التي تضر بأمن "إسرائيل" وتفوّقها.
استتبع ذلك العمل للقضاء على ما يمكن أن يُؤدّي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلّة، والقضاء على حلّ الدولتَين، واعتبار إقامة دولة فلسطينية، حتّى إنْ كانت مجزّأةً ومنزوعةَ السيادة والسلاح في الضفّة، بمثابة تهديد استراتيجي لإسرائيل، واعتبار أنّ "أرض إسرائيل" لا تتّسع لشعبَين، وأنّ الهوية الفلسطينية تُشكّل النقيض للمشروع الصهيوني، مع ما رافق ذلك من عمليات استيطان وتهويد وقتل لمناحي "المشروع الوطني" كلّها، الذي راهنت قيادته سنواتٍ طويلة على حصول تحوّلات سياسية داخل "إسرائيل" يمكن أن تُفضي إلى تحقيق "حلّ الدولتين"، لكنّ ذلك لم يحصل.
ما طبّقه نتنياهو، واستخدمه في الصراع المستمرّ، إنّما هو متأصّل في فكره وممارسته
وما طبّقه نتنياهو، واستخدمه في الصراع المستمرّ، إنّما هو متأصّل في فكره وممارسته، وبرز ذلك في خطاباته، وكتاباته، التي عبّر عنها في كتابه "مكان بين الأمم"، وفي مقال له، عنوانه "من الممكن وقف الإرهاب" (معاريف، 3/6/2001)، الذي يعتبر فيه أنّ "المفتاح لوقف الإرهاب ليس في هُويّة النظام الذي واجهنا، أو بنواياه، وإنّما في ردعه"، وأنّه "يجب العودة إلى النظرية الأمنية التي وضعتها إسرائيل منذ يوم تأسيسها"، في إشارة منه إلى النظرية الأمنية التي وضعها فلاديمير جابوتنسكي المعروفة بـ"الجدار الحديدي".
تصعيد الاحتلال "الإسرائيلي"، من حرب الإبادة الشاملة ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، وحرب الإلغاء في الضفّة الغربية، وتعميق تهويد وأسرلة القدس، وزيادة الاقتحامات للمسجد الأقصى، والعمل من أجل هدمه وبناء الهيكل المزعوم، واختراق المنطقة، إنّما تمثّل ذروة المخاطر التي تستوجب التعاطي معها وفق ما تقتضيه قوانين الصراع والثورات، من دون الخضوع والاستسلام له، وعبر معرفة طبيعة هذا المشروع الاستعماري، وطبيعة دوره، ونقاط قوّته وضعفه. وفي الوقت نفسه، معرفة الذات، ونقاط الضعف والقوّة، ضمن رؤيةٍ ترى، وتستفيد أيضاً من المتغيرات العالمية، التي تطاول النظام الدولي نفسه؛ لجهة محاولة إنهاء التفرّد الأميركي، والسعي إلى تشكيل نظام دولي مُتعدّد الأقطاب.