حماس والاستثمار الخاسر

19 سبتمبر 2022
+ الخط -

لم يكن مفاجئاً هذا التراجع عن الموقف الأخلاقي الذي اتخذته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) قبل عشرة أعوام، عندما وقفت على الحياد في حرب نظام الأسد على الشعب السوري، فقد مهّد قادتها لذلك منذ أشهر من خلال تسريبات وتصريحات متتالية، بهدف جسّ النبض من جهة، وتخفيف الصدمة من جهة ثانية. ولقادةِ الحركة مبرّراتهم لهذا التراجع، وإن لم تكن مقنعة ولا منطقية أو أخلاقية أو حتى مفيدة سياسياً، فهم يرون المحيط الإقليمي بمجمله مقبلاً على ذلك، فمن هنا تركيا والإمارات ومن هناك الجزائر وتونس. ومنذ بداية الثورة السورية، لم تقطع منظومة العمل الدولي علاقتها القانونية بالنظام، وهذا كان منذ زمنٍ بعيدٍ مؤشّراً على هشاشة الموقف الدولي سياسياً، وبعده عن أي مرتكزاتٍ أخلاقيةٍ وإنسانيةٍ في مواجهة حربٍ ضروس، يشنّها نظامٌ ضدّ شعبٍ يحكمه.
من الخطأ، بكلّ تأكيد، قياس تحرّكات الدول ومواقفها على أساس قربها أو بعدها من القيم الأخلاقيّة، فالمصالح، لا القيم، هي المحرّك الرئيس لعجلة العلاقات الدولية، مصالح الأمن القومي، مصالح الاقتصاد، مصالح التوسّع والنفوذ، وحتى المصالح الانتخابيّة الداخلية في البلدان الديمقراطية تلعب أدواراً مهمّة في رسم سياسات الأحزاب والقادة على الصُعد الدولية. الأمر مختلفٌ بالنسبة لحركات التحرّر الوطني، أو لحركات المقاومة الوطنية، أو هكذا يجب أن يكون الأمر، وحركة حماس تعرّف نفسها ضمن هذا السياق، منذ ما قبل استيلائها على السلطة في قطاع غزّة بالحسم العسكري مع حركة فتح في 14 يوليو/ تموز 2007،. ما الجديد، إذن، على مستوى البنية الفكرية أو العقيدة التي تتبنّاها الحركة، حتى تعود أدراجها إلى مساحةٍ طالما كانت ضيّقة عليها، وإلى نظامٍ طالما استخدمها ورقةً لتحقيق مصالحه في المنطقة لا أكثر؟

المبرّر الوحيد لارتماء "حماس" في الحضن الإيراني هو بالضّبط رغبتها في البقاء في سدّة الحكم

تجد "حماس" نفسها مرغمة على الاصطفاف ضمن محور إيران، حتى مع علمها ويقينها بأنّها لن تعدو كونها ورقة تستخدمها الأخيرة في صراعها على النفوذ مع جيرانها الإقليميين، أي مع إسرائيل، فبعد اتفاق التسوية باتفاق أميركي روسي، والذي أعاد الجنوب السوري إلى سيطرة قوات نظام الأسد منذ صيف العام 2018، بات لإيران عملياً حدودٌ مشتركة مع إسرائيل، فالمليشيات المدعومة منها تنتشر كالفطر في الجنوب، وعلى بعد مرمى حجر من حدود الجولان المحتل، وهذا يجعل من وجود حركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزّة بمثابة الطرف الثاني للكمّاشة التي تطوّق فيها إيران إسرائيل. لكنّ هذه الضرورة ما كانت لتُفرض على "حماس" أو غيرها لو أنّها بقيت أو رغبت بالبقاء حركة مقاومة وطنية، لا سلطة فعلية يسعى أصحابها إلى استدامتها.
المبرّر الوحيد للارتماء في الحضن الإيراني، الذي أدّى، في النهاية، إلى تراجع "حماس" عن مواقفها السابقة تجاه النظام السوري، هو بالضّبط رغبتها في البقاء في سدّة الحكم، أي بقاء التيّار الذي تنتمي إليه عامّة (الإسلام السياسي – الشيعي – السنّي/ المتنافس – المتحالف)، وبقاء الحركة ذاتها مسيطرةً على القطاع، وبقاء قادتها فاعلين محليين في جوار السلطة الفلسطينية، وعلى حدود مصر وإسرائيل. غير ذلك لا يمكن للمرء أن يتخيّل سبباً مقنعاً لهذا الانعطاف، أو الانزلاق نحو مستنقع مليء بجثث السوريين والفلسطينيين، فهل نسي الحمساويون ما فعله نظام الأسد بمخيمات درعا واليرموك وفلسطين وحندرات والرمل الشمالي! وهل يمكن لعاقلٍ أن يقتنع فعلاً بأنّ إيران تريد تحرير القدس وفلسطين، وهل بات من قشرة توتٍ على عورة تيّارات المقاومة والممانعة الزائفة، بعد كل ما سال من دماء السوريين والفلسطينيين على أيدي أبطالها!

من وقف مع فلسطين عبر التاريخ هو الشعب السوري، السوريون العاديّون لا الأنظمة الحاكمة

السياسة في الواقع العملي هي مجموعة التدابير التي تتّخذها الدول والحكومات والأحزاب والتيّارات للحفاظ على مصالحها، وهي مجمل المواقف التي تحدّد سلوكيات هذه الكيانات وعلاقاتها البينيّة. وإذا كانت "حماس" قد وجدت في إيران حليفاً أوحد لها ضمن هذه الموجة العربيّة السائدة من التطبيع مع إسرائيل، فإنّ عليها أن تحسب في موازين الخسارة والربح ليس فقط الظروف الآنيّة، بل عليها أن تنظر إلى المستقبل البعيد. على "حماس" أن تتطلّع إلى الآفاق الاستراتيجية، وألا تكتفي بالتكتيكات المرحلية. قد ينجو نظام الأسد هذا العام، وقد يبقى عاما أو اثنين أو ثلاثة، لكنّه لن يبقى إلى الأبد، فهذا العصر ولّى، وكان الأجدر بحركة حماس (وغيرها) أن تبني علاقة حقيقيّة مع الشعب السوري، لا مع النظام الذي قتله وهجّره. وكان عليها أن تتطلّع إلى مستقبل سورية الجديدة وشعبها الذي لا يموت ولا يفنى، لا أن تربط نفسها بعصابةٍ فانية وزائلة دمّرت سورية خدمة لبقاء إسرائيل، التي هي العدوّ المفترض الأوّل لحماس! من وقف مع فلسطين عبر التاريخ هو الشعب السوري، السوريون العاديّون لا الأنظمة الحاكمة، وهؤلاء هم الاستثمار الحقيقي والرهان الرابح، وما دونهم وغيرهم هو استثمار رخيصٌ ولا أخلاقيٌّ من جهة، ومن جهة ثانية رهانٌ خاسرٌ سياسياً لن يُسمن "حماس"، ولن يُغنيها من جوع.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود