حكاية نور زهير والأربعين حرامي
لا يحتاج المواطن العراقي المغلوب على أمره إلى كبير عناء ليكتشف أن ما قاله أخيرا نور زهير عرّاب سرقة الأمانات الضريبية التي عرفت باسم "سرقة القرن" عينة صغيرة من واقع حال العراق الذي وضعته منظّمة الشفافية العالمية في المرتبة 157 وفق مؤشّر الدول الأكثر شفافية من بين 180 دولة، وإذا كان زهير قد توعّد بكشف أسماء السياسيين والاعلاميين المتورّطين معه، وهم كثر، فمن غير المتوقّع أن تهتم الجهات المعنية بمتابعة الفضيحة، والكشف عن تفصيلاتها، ومحاكمة من تثبت عليهم جريمة الفساد، لأن تلك الجهات نفسها تبدو مشاركة أو متواطئة، وهي التي قبلت، في أغرب عملية تسوية قضائية في تاريخ العراق، أن يدفع زهير ما يساوي 5% من مجموع المبالغ المسروقة البالغة أكثر من 2.5 مليار دولار، وأن تطلق سراحه، وترفع الحجز عن أمواله المنقولة وغير المنقولة، ومن ثم تعمل على تسهيل سفره إلى الخارج. وكأن لم يكن هناك شيء، وكان مثيراً للسخرية أن يعقد رئيس الحكومة، محمد شياع السوداني، في حينه مؤتمراً صحافياً، وقد وضع على الطاولة أمامه رزم الدنانير العراقية المعادة، كاشفا أن نصف الأموال المسروقة "هربت بغطاء رسمي، وبالتواطؤ مع عاملين في الدولة"، وواعداً العراقيين بأن بقية الأموال ستُستعاد خلال أسبوع أو أسبوعين.
ومرّت عشرون شهراً على وعد السوداني باستعادة الأموال المسروقة، ولم يكن هناك جديد سوى أن "العرّاب" كان يظهر في مجالس دولة خليجية، متحدّثا عن نيّته إقامة مشاريع استثمارية فيها، فيما دوائر النزاهة تكشف كل يوم عن صفقات أخرى، وفضائح فساد جديدة في هذا المرفق أو ذاك، توشك أن تغطي أخبارها على صفقة نور زهير ثم تطوى القضية، وينتهي الأمر كما طويت عشرات فضائح السرقة من قبل، لولا أنه تجرّأ وتحدّى من أراد أن يجعلوا منه "كبش فداء".
وقد بدا في تحدّيه شركاءه الذين ابتزّوه، وقبضوا منه الملايين في لقائه التلفزيوني أخيراً، كما لو كان يسعى إلى قلب الطاولة عليهم، مطالبا بمحاكمة علنية يكشف فيها أسماءهم، وهم "سياسيون ومسؤولون كبار ونواب ومدراء عامون وإعلاميون"، واصفا ما فعلوه معه بأنه "ابتزاز قذر وفبركات افتعلوها للتغطية على فضائح أكبر". وفي واقعة واحدة تستدعي الضحك الذي يشبه البكاء على ما آلت اليه أحوال العراق، يروي زهير أن برلمانيا طلب منه أن يشتري له منزلاً فخماً في حي الأميرات في بغداد الذي تسكنه الطبقة الراقية، مشترطا أن تكون مساحته 1200م مقابل ضمان صمته. وفي واقعة أخرى، يتّهم وزيراً سابقاً بطلبه مبالغ كبيرة، منه تصل إلى بضعة ملايين، كما يعترف بأن أكثر من 20 شخصا قد استفادوا ماليا من "الصفقة".
هل ستؤدي محاكمة نور زهير إلى محاكمة لكل "حرامية" بغداد أم ستتم التضحية به وحده؟
الأمر المثير الآخر أن زهير يتحدّى سلطات الدولة نفسها بإعلانه أن الأموال التي جرى التصرف بها في الصفقة ليست من أموال الدولة وليس للدولة فيها دينار واحد، بل هي أموالٌ لشركات أجنبية وضعتها أمانات في الخزينة العراقية، تستعيدها بعد إكمال تعاقداتها، وجرى التصرّف بها وفق سياقات قانونية موثقة بكتب رسمية من هيئة النزاهة والبنك المركزي والجهات المعنية الأخرى (؟). هو هنا يريد أن يقول إن فعلته تشبه فعلة من يعثر في الطريق على مال ليس له مالك، حيث يحقّ له أن يدخله في حوزته، كما تقول "الفتوى" الملغومة التي يستند إليها "حرامية" بغداد في تبرير سرقاتهم المال العام. ولا ينسى نور زهير دور القضاء في التلاعب بمجريات القضية نفسها، وعدم النظر إليها بتجرّد نتيجة "ضغوط مورست عليه" من جهات مستفيدة، مشاركة أو متواطئة.
... كل هذه "الخلطة" التي عرضها نور زهير أمام الرأي العام تستدعي أسئلةً كثيرة، وأجوبة كثيرة أيضاً. وقد يكشف، كما وعد وتوعد، عن خيوط أكثر، ورؤوس أكبر، عندما يمثُل أمام المحكمة في الموعد الذي حدّد له، وهو يريدها "محاكمة علنية" لأنه يشعر أنه "مظلوم" كما قال، ويريد أن يُطلع الرأي العام على الحقيقة كما هي.
لكن هل ستؤدي محاكمة نور زهير إلى محاكمة لكل "حرامية" بغداد أم ستتم التضحية به وحده؟. ... ذلك هو السؤال الكبير الذي لم تتضح إجابته بعد.