حكاية المدينة التي نجت
تتكوّن عاصمة السودان، الخرطوم، من ثلاث مدن رئيسية، الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري. يحتضن الخرطوم النيلين الأزرق من الشرق والأبيض من الغرب، ويلتقيان شمالها في "مقرن النيليْن"، حيث يبدأ نهر النيل العظيم رحلته نحو مصبّه في البحر الأبيض المتوسّط.
هذه مدينة كولونيالية الطابع. أنشأها في النصف الأول من القرن التاسع عشر ما اصطُلح في السودان على تسميته "الحكم التركي" (1821 – 1885)، ويُقصد به حكم والي مصر، محمّد علي باشا، ونسله. كانت الخرطوم عاصمة بديلة. بعدما دمّر جيش محمّد علي، بقيادة ابنه إسماعيل، وزوج ابنته الدفتردار، ممالك السودان القديم، وأنشأ عاصمة في مدينة ود مدني (عاصمة ولاية الجزيرة حالياً)، ثم انتقلت العاصمة إلى الخرطوم، فنشأت فيها الجنائن والمباني والشوارع. ثم دخلتها جيوش أنصار محمد أحمد المهدي، فدمّرتها وقتلت آلافاً من سكّانها من الأوروبيين والأتراك والمصريين والسودانيين. أقفرت الخرطوم وتحوّلت الى ركام طوال سنوات المهدية (1885 – 1898)، حتى أن سقوف المنازل وأبوابها ونوافذها كانت تُنزع لتُنقل إلى العاصمة الجديدة، أم درمان.
نشأت أم درمان بشكل مرتجل متعجل معسكراً لقوّات المهدي، وهو طالب قرآن متصوّف أزعجته الحياة الجديدة التي تتكوّن، وظلم الحكم المصري – التركي. ورأى أن العالم قد وصل إلى نهايته بما يراه من فساد وتغيّر أخلاق الناس، فزعم أنه المهدي المنتظر الذي يبعثه الله بين يدي الساعة ليملأ الأرض عدلاً. وتبعه مئات الآلاف وآمنوا بدعوته، وصدّقوا أنه المبعوث من الله ليقودهم إلى حكم العالم. لكن المهدي المنتظر مات بعد ستة أشهر من انتصاره على الجيش الإنكليزي – المصري، قبل أن تتحرّك قواته من أم درمان. هكذا دُفن الرجل المقدّس عند أتباعه في معسكر قواته قرب قرية صيادين صغيرة تقع على الضفة الغربية للنيل في مواجهة مدينة الخرطوم. وأصبح هذا المعسكر هو مدينة أم درمان عاصمة السودان حتى نهاية حقبة المهدية بدخول قائد الجيش المصري، السردار كتشنر، المدينة واستباحتها. وتعرّضت أم درمان إلى ما تعرّضت له الخرطوم قبل أقل من عقدين. استباحة كاملة، سرقات، قتل، وسبي. لكن مع إعادة إعمار الخرطوم، قرّر الغزاة هذه المرّة أن تظل أم درمان مكانها من دون تخريب كامل أو تهجير لأهلها، فبقيت تعرف بـ"العاصمة الوطنية".
أما ثالث المدن، الخرطوم بحري، فهي أحدثهن. وأنشأها الحكم الإنكليزي – المصري شمال الخرطوم، لتكون سكناً للعمّال، ومحطة متقدّمة للقطار وللدفاع عن الخرطوم. كانت هذه المدينة الأكثر حظاً من صاحبتيها، فما تعرّضت مثلهما للغزو والتخريب والتدمير. شهدت العاصمة عدّة اشتباكات عسكرية في تاريخها، مثل تمرّد الجنود السودانيين في 1924 عند سحب الجيش المصري من السودان، بعد مقتل حاكم عام السودان، السير لي ستاك، وهو يزور مصر. ومحاولة المعارضة السودانية غزو العاصمة في 1976. ومحاولة قوات احدى حركات دارفور المسلحة (العدل والمساواة) دخول العاصمة في 2008.
تلك "حروبٌ صغيرة"، لم تستمرّ أكثر من أيام، بل انتهى بعضها في ساعات نهار يوم واحد. بعض زخّات الرصاص. صوت قذيفة أو اثنتين. يختبئ الناس في البيوت، يسمعون أصوات القتال، ثم يبشّرهم الراديو أو التلفزيون بأن الأمور قد حُسمت، وتعود الحياة إلى ما كانت عليه.
وفي بحرٍ مضطربٍ من الحروب، ظلّت الخرطوم آمنة، بينما تأكل الحرب الأهلية جنوب البلاد ثم غربه لاحقاً. بشكلٍ ما، نجت العاصمة الكبرى الخرطوم بمدنها الثلاث طوال القرن العشرين من دون خسائر كبيرة. حتى الحرب العالمية الثانية التي دكّت حواضر العالم، ما أصاب الخرطوم منها إلا غارة يتيمة ألقت قذيفة وحيدة انفجرت من دون إحداث خسائر، اللهم إلا قتل حمار سيّدة، خلدته لاحقاً الأغاني الشعبية.
ولكن العاصمة التي نجت من القرن المضطرب وقعت ضحية حرب 15 إبريل (2024)، فقضت على أغلب مبانيها، وهجّرت أهلها. والآن تزحف المجاعة نحو من بقي فيها! ... مدينة لم يتجاوز عمرها القرنين، لكنها شهدت الكثير. وتشهد الآن أخطر ما واجهته في تاريخها. تواجه سؤال البقاء.