الانقلاب الذي أحرق كلّ شيء
"كان لزاماً علينا في القوات المسلّحة والدعم السريع والأجهزة الأمنية الأخرى أن نستشعر الخطر، ونتّخذ الخطوات التي تحفظ مسار ثورة ديسمبر/ كانون الأول المجيدة، حتى بلوغ أهدافها النهائية في الوصول لدولة مدنية كاملة عبر انتخابات حرّة ونزيهة. عليه، ولتصحيح مسار الثورة تقرّر الآتي...". بهذه الكلمات قدّم الفريق أول عبد الفتاح البرهان البيان الأول لانقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول (2021)، فأعلن فضّ الشراكة مع القوى المدنية، وحلَّ مجلس السيادة ومجلس الوزراء، وإعفاء ولاة الولايات، وتجميد عمل لجنة إزالة تمكين نظام 30 يونيو/ حزيران (نظام الرئيس الأسبق عمر البشير والحركة الإسلامية).
مثل حرب 15 إبريل/ نيسان (2023)، تشكّل الانقلاب أمام الجميع. موّل نائب رئيس مجلس السيادة وقتها، قائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اعتصاماً كرنفالياً حشدت له الحركة الإسلامية، وحركتَي العدل والمساواة (بقيادة جبريل إبراهيم وزير المالية)، وحركة تحرير السودان (بقيادة أركو مني مناوي حاكم إقليم دارفور)، بمعاونة مدير المؤسّسة السودانية للمعادن، وغيرها من جماعات من أنصارهم، قبالة القصر الجمهوري بالخرطوم. وطالب المعتصمون بحلّ حكومة عبد الله حمدوك الانتقالية، وهتفوا للحكم العسكري. في الوقت نفسه، كان الناظر سيد محمد الأمين ترك، أحد أكثر زعماء القبائل في شرق السودان أهمّية، يغلق ميناء بورتسودان الرئيس، مطالباً بحلّ الحكومة، مؤكّداً أن "الثوار هم من أتوا بالبرهان، وحميدتي هو من كان حارسَ الثورة بجيشه". في تلك الأيام، أصيب مقدّمو البرامج التلفزيونية بالدهشة وهم يحاورون وزير المالية، الذي يطالب بحلّ حكومة هو عضو فيها، وتكوين حكومة بلا محاصصات حزبية، شريطة عدم المساس بحصّة مجموعته التي تبلغ 25% من هياكل السلطة (!) ثمّ نفّذ قائدا الجيش و"الدعم السريع" انقلابهما. وتبخّر الاعتصام الكرنفالي، لتملأ الشوارع ملايينٌ غاضبةٌ رافضةٌ للانقلاب على الحكومة المدنية الانتقالية.
واجه المجلس العسكري الجديد الجماهير بالرصاص والقمع الوحشي. وسجَّلت تقارير عدّة حالات اعتداء جنسي. وكالعادة، كان المجلس العسكري ينكر ذلك كلّه. بل اتهم في رسالة لمجلس الأمن المتظاهرين بالإرهاب ومهاجمة قوات الأمن والاعتداء على مقارّها. وقعت عدّة مذابح في مواجهة القوات الأمنية للمتظاهرين؛ شهداء، مدنيون، لم يحملوا سلاحاً إنّما حُلماً.
لكنّ الانقلاب لم يتراجع، حتى مع تجميد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، وهو التجميد الذي يطالب الفريق أول البرهان بفكّه، ليضمن الاعتراف بشرعية حكمه منذ أكتوبر 2021. وأوقفت المؤسّسات الدولية كافّة مشاريع المساعدات التي شرعت فيها بعد تكوين الحكومة المدنية. واحتجّ وزير المالية الذي لم يغادر منصبَه بعدما شارك في الانقلاب على زملائه وعلى الحكم المدني، واتهم المؤسّسات الدولية بتسييس المعونات، واعتبر رفضها تنفيذَ مشاريع الدعم مع النظام العسكري الجديد تدخّلاً في الشأن السوداني الداخلي. وأعلنت الولايات المتحدة عقوبات على شرطة الاحتياطي المركزي لاتهامها بالعنف المفرط تجاه المدنيين.
هذه الأطراف نفسها من تقاتل بعضها اليوم في "معركة الكرامة"، وهو الاسم الذي أطلقته الحركة الإسلامية على الحرب، كما كانت تطلقه على مواكبها المندّدة بالحكم الانتقالي. ووزع قائد "الدعم السريع" جنوده، الذين شاركوا في تنفيذ انقلاب أكتوبر (2021)، ثمّ في قمع المدنيين في شوارع الخرطوم، في أنحاء السودان يبثّون الرعب والدمار.
يحوّل قائد "الدعم السريع"، في صراعه مع حلفاء الأمس، ولاية الجزيرة في وسط السودان دارفور جديدة. فتقتحم قواته القرى لتذبح المواطنين، وتتفنّن في قتلهم وإذلالهم، ثمّ تجبر المحظوظين منهم على النزوح عنها، وتنهب ممتلكاتهم. عمليات اجتياح همجي لقرى ظلّت آمنةً مئات الأعوام، تزرع خيرها في صمت وتشكو حالها للزرع. عملية تهجير قسري وإبادة جماعية جديدة يقوم بها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ليست في غرب السودان، ولكن في وسطه. هذه المرّة لا يرتكبها بحماية الحكومة والجيش، بل للمرّة الأولى يقصف الجيش مدنيين يعتبرهم مؤيّدين لحميدتي. وكما دارفور، لن يغفر أهل الجزيرة.
في أكتوبر 2016، أعلن نظام البشير نيّته مقاضاة منظّمة العفو الدولية لأن تقاريرها توثّق انتهاكات الجيش و"الجنجويد" في دارفور. واليوم (في أكتوبر أيضاً)، وبعد 3 سنوات من انقلاب البرهان وحميدتي، تقف السلطة العسكرية من المنظمات الدولية الموقف ذاته.
لم يكن انقلاب 25 أكتوبر (2021) الأول في تاريخ البلاد، التي أدمن عسكرها الانقلابات. لكنّه الأخطر، فهو الذي اختلف رأساه فتحاربا في بلد هشّ يقف على حافة الجحيم. فدفعاه إليها.