حقبة أردوغان... نقطة تحوّل أم بداية النهاية؟
إذا ما نظرنا إلى نتائج الانتخابات المحلية التي انتظمت أخيراً في تركيا من منظور تصدّر حزب الشعب الجمهوري، المعارض، التصويت على المستوى الوطني للمرّة الأولى منذ سبعينيات القرن الماضي، فإن السياسة التركية دخلت بالفعل حقبة جديدة قد تُتوّج في عام 2028 بعودة أكبر حزبٍ معارض إلى السلطة بعد غياب عنها عقوداً طويلة. وإذا ما نظرنا إليها من منظور تراجع حزب العدالة والتنمية، الحاكم، إلى المرتبة الثانية على مستوى التصويت الوطني، وخسارته الحكم المحلي، مع استمرار احتفاظه بالسلطة المركزية، فإن انتخابات 31 مارس بمثابة نقطة تحوّل في تاريخ الحزب، وقد تكون بداية النهاية لحقبة "العدالة والتنمية". ومع أن هذين المنظورين يؤدّيان إلى خلاصة متشابهة، إلآ أن اعتماد كلٍّ منهما في تقييم نتائج الانتخابات وتداعياتها على السياسة الداخلية يقودنا إلى تصوّر مختلف عن الآخر. كما أن المزج بين هذين المنظورين، والذي هو أقرب إلى الواقعية، يقودنا إلى تصوّر ثالث.
كان التقييم الصريح الذي قدّمه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لأسباب هزيمة حزبه، والتي اختصرها بتردّي الوضع الاقتصادي والجدران التي بدأت تفصل "العدالة والتنمية" عن الشارع، بدا مُصمّماً لإظهار أن الحزب لا يزال قادراً على التعافي من آثار الهزيمة بمُجرّد معالجة هذه الأسباب. لكنّه يختلف مع تقييم "الشعب الجمهوري" الذي يُرجع فوزه إلى نجاحه في التعبير عن إرادة أكثرية الأتراك الراغبين في التغيير والتخلص من حكم الرجل الواحد. ويبدو هذا التقييم مُصمّماً لإظهار أن فوزَه كان نتيجة قوة ذاتية بقدر ما هو نتيجة لضعف "العدالة والتنمية". مع ذلك، أرى أن الأخذ بأحد هذين التفسيرين دون الآخر لا يُساعد في تقييم موضوعي لنتائج الانتخابات وتداعياتها. فمن جانبٍ، تُظهر حقيقة أن ملايين الناخبين ممن دعموا أردوغان والحزب الحاكم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة قاطعوا الانتخابات المحلية الأسبوع الماضي وسيلة لمعاقبة أردوغان، أرادوا منحه فرصة أخيرة لإعادة تصويب المسار في الفترة المتبقّية من رئاسته. كما أن الأصوات الإضافية التي حصل عليها حزب الشعب الجمهوري من خارج كتلته الصلبة كانت من ناخبي حزب الجيد، القومي المعارض، الذين عبّروا عن إحباطهم من خيار زعيمة الحزب، ميرال أكشنار، الانفصال عن "الشعب الجمهوري"، ومن ناخبي حزب المساواة وديمقراطية الشعوب (الكردي) الذين التزموا بتعليمات دعم مرشّحي حزب المعارضة الرئيسي في البلديات الكبرى، مثل إسطنبول. وبالتالي، لا تعكس المكاسب الإضافية التي حصل عليها "الشعب الجمهوري"، بالضرورة، استعادة قوته على غرار ما قبل حقبة السبعينيات.
بدأ أردوغان بناء زعامته الوطنية من نقمة الشارع على تردّي الاقتصاد قبل حقبة "العدالة والتنمية"
ومن جانب آخر، لم يكن في وسع حزب الشعب الجمهوري استقطاب مزيد من الناخبين، لولا الخطاب الجامع الذي مكّنه من جذب أصوات قومية وكردية ومحافظة على حد سواء. ومع أن الانتخابات المحلية أخيراً كانت تصويتاً ضد حكم الرئيس رجب طيب أردوغان بقدر ما كانت تصويتاً لمصلحة حزب الشعب الجمهوري، إلآّ أن الفرصة عادة ما تُولّد فرصاً أخرى. في الوقت الذي أفقد غياب الهوية الواضحة لحزب العدالة والتنمية، بوصفه محافظاً ليبرالياً وإصلاحياً إلى جانب النهج الاستقطابي لأردوغان في السنوات الأخيرة من حكمه، شريحة واسعة من الناخبين، فإن "الشعب الجمهوري" استطاع استقطاب جزءٍ من هذه الشريحة من خلال الخطاب الجامع الذي يُركّز على الرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. لقد بدأ أردوغان بناء زعامته الوطنية من نقمة الشارع على تردّي الاقتصاد قبل حقبة "العدالة والتنمية"، واستطاع استقطاب شرائح واسعة تبحث عن الرفاهية قبل أي شيءٍ آخر. لن يكون بمقدور "الشعب الجمهوري" تقديم هذه الرفاهية في الحكم المحلي، بينما هو خارج السلطة المركزية، لكنّ إخفاق أردوغان في إعادة هذه الرفاعية يُقصّر المسافات على "الشعب الجمهوري" للعودة إلى السلطة.
عادةً ما تولّد الأزمات الفرص. وأردوغان يُعرف ببراعته الشديدة في تحويل الأزمات إلى فرص
وبمعزل عن اختلاف التصورات بين الحزبين، الحاكم والمعارض، لنتائج الانتخابات، فإنّها شكّلت إنذاراً كبيراً لأردوغان وحزبه. حتى مع الأخذ بالاعتبار أن المكاسب الانتخابية المذهلة التي حققها حزب الشعب الجمهوري ترجع إلى عوامل مؤقتة ومُتغيّرة مع مرور الوقت، فإن ثلاثة تحوّلات رئيسية أفرزتها الانتخابات ستُشكل صدْعاً كبيراً للحزب الحاكم. ويتمثل التحوّل الأول في صعود حزب الرفاه الجديد، المحافظ بقيادة فاتح أربكان نجل الزعيم المحافظ الراحل نجم الدين أربكان.
ولطالما تمثلت إحدى نقاط قوة "العدالة والتنمية" على مدى العقدين الماضيين في عدم وجود حالة سياسية محافظة قوية قادرة على استقطاب الأصوات المحافظة من قاعدة الدعم للرئيس أردوغان. لكنّ"الرفاه الجديد" يُقدم نفسه اليوم بديلاً للمحافظين الممتعضين من الحزب الحاكم. أما التحوّل الثاني، والأكثر أهمية، فيتمثل في هيمنة "الشعب الجمهوري" على الحكم المحلي. لقد بنى أردوغان زعامته الوطنية انطلاقاً من هيمنة حزبه على الحكم المحلي نحو عقدين. ولدى "الشعب الجمهوري" فرصة حالياً لجذب الناخبين في البلديات التي فاز بها حديثاً في الأناضول. وإذا استطاع إثبات كفاءته في الحكم المحلي في السنوات الخمس المقبلة، فإنه سيكون قادراً على توسيع كتلته الصلبة بما يُساعده على إحداث تحوّل سياسي في الانتخابات العامة المقبلة في عام 2028.
الطريقة الأساسية الوحيدة المتبقّية أمام أردوغان لمحاولة عكس تحوّلات "31 مارس" هي إحداث تعافٍ اقتصادي
ويتمثل التحوّل الثالث في أن سوء الإدارة الاقتصادية خلال السنوات الماضية عمل على تطوير ردّة فعل الناخبين، الذين دعموا أردوغان والحزب الحاكم في السابق، من ردة فعلٍ عقابيّة محدودة (على غرار انتخابات 2019)، إلى ردة فعل أوسع نطاقاً عبر إعادة تصميم السياسة الحزبية الداخلية على المستوى المحلي. الطريقة الأساسية الوحيدة المتبقّية أمام أردوغان لمحاولة عكس تحوّلات "31 مارس" هي إحداث تعافٍ اقتصادي في الفترة المتبقية من ولايته لإقناع الناخب بأن الحزب الحاكم لا يزال قادراً على إدارة تركيا وتحقيق الرفاهية الاقتصادية لشعبها. مع ذلك، لن يكون الاقتصاد كافياً وحده لتجاوز آثار هزيمة 31 مارس. وهنا تبرز ثلاثة طرق أخرى على أردوغان سلوكها في الفترة المتبقية لرئاسته. الأولى، التخلّي عن سياسة الاستقطاب الحادّة التي أنهكت السياسة التركية والمجتمع منذ ما يقرب من عقد. والثاني، إعادة الاعتبار لهوية "العدالة والتنمية" حزباً محافظاً ليبرالياً وإصلاحياً. والثالث، الشروع الفوري في إعداد زعيم جديد قادر على قيادة الحزب بعد أردوغان وإبقائه في السلطة بعد عام 2028 بدلاً من البحث عن سبل إطالة أمد رئاسة أردوغان.
عادةً ما تولّد الأزمات الفرص. وأردوغان يُعرف ببراعته الشديدة في تحويل الأزمات إلى فرص. لكنّ تجنّب الطرق الواضحة للتعافي من هزيمة الانتخابات المحلية، قد يُكلف حزب العدالة والتنمية خسارة السلطة في الانتخابات البرلمانية المقبلة.