حضر ابن السيسي وغاب العصار

08 يوليو 2020
+ الخط -

 

اللواء محمد العصار وزير الإنتاج الحربي، أو الفريق فخري كما أراد عبد الفتاح السيسي أن يشيعه قبل إعلان وفاته بأسبوع، كان آخر من تبقى من أعضاء المجلس العسكري المعروفين للجماهير منذ العام 2011.

كان العصار في سنوات ما قبل انقلاب 2013 يمثل شعرة معاوية بين القوى المدنية، بمختلف ألوانها، وبين المؤسسة العسكرية، إذ كان يحتفظ ببعض السمات المدنية، كونه بالأساس مهندسًا تخرج من الكلية الفنية العسكرية، فضلًا عن سمات شخصية لمسها كل من تعامل معه، جعلته ربما العقل السياسي الوحيد ضمن منظومة الجنرالات الحاكمين، بحيث يمكن أن تدخل معه في نقاش وجدل لساعات من دون غضب أو استفزاز أو ممارسة سادية الاستعلاء العسكري على من يختلف معه.

باختصار كان العصار، رحمه الله، يمثل تلك القشرة السياسية اللازمة لكي يقبل جمهور الثورة التعاطي مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة باعتباره مؤسسة للحكم والإدارة السياسية، ولو بشكل مؤقت، في أعقاب خلع حسني مبارك، ومن ثم كان بمثابة ملطف للاحتكاك الخشن بين أهل الحكم (العسكري) وأهل الثورة في عديد من محطات الصدام.

يتم الإعلان عن وفاة محمد العصار في لحظة تتقاطع بها إشارات عدة، منها تلك الترقية المباغتة التي منحها السيسي له، من دون مناسبة، إلى رتبة "فريق فخري"¡ وهي الخطوة التي فسرت بأحد احتمالين: إما تصعيد، بحيث يترأس الحكومة مثلًا، أو تكريم يتبعه إبعاد تام عن المشهد.

تزامن ذلك أيضًا مع عودة ابن السيسي إلى واجهة الجدل السياسي والعسكري من جديد، بعد فترة كمون أعقبت زوبعة التسريبات الخاصة بإبعاده إلى البعثة الدبلوماسية في موسكو، وهي القصة التي اندلعت منذ شهور ثم خمدت مؤقتًا، وقلت وقتها أننا بصدد طرح اسم الابن الأكبر للسيسي في بورصة السياسة على أوسع نطاق، عن قصد وتعمد.

لا يمكن أيضًا إغفال أنه مع إعلان وفاة العصار، يتم إعلان وفاة أي أمل في نفس أي عسكري سابق لمنافسة عبد الفتاح السيسي سياسيًا، وذلك بإقرار التشريع الخاص بمنع العسكريين المتقاعدين من الترشح لانتخابات الرئاسة أو البرلمان إلا بموافقة الجيش. هذا الجيش الذي كان محمد العصار آخر الكبار الذين عرفوا الحروب فيه، منذ مشاركته في حرب الاستنزاف بعد العام 1967 وحتى رحيله بالأمس، ليكون آخر من كان يمكنهم مخاطبة السيسي باسمه مجردًا من تلك الهالة الكاذبة التي يسبغها عليه الذين يغرقونه في محيط من النفاق الجبان.

يذهب غالبية من التقى محمد العصار  إلى أنه كان يمثل تلك القنطرة الافتراضية التي من الممكن أن تمر فوقها أية أفكار وأطروحات للخروج من حالة الانقسام السياسي والإنساني في مصر، بالنظر إلى أنه كما ذكرت في البداية يمتلك اللغة والأدوات اللازمة لبناء أي حوار سياسي بين النظام العسكري والأطراف المدنية في المجتمع، وهذا الاعتبار لا يعني بالطبع منحه شهادة براءة من كل الدم الذي سال على يد الحكم العسكري طوال السنوات التسع الماضية، بقدر ما هي محاولة لوصف حالة مصر المحبوسة في نفق الثأر والكراهية الراهنة.

قبل ذلك وبعده، كان العصار يتمتع بصلات أقوى مع دوائر السياسة الدولية المؤثرة في المشهد المصري، أما ما يتعلق بالجزم بأنه كان مهندس الانقلاب ومدير المذابح التي شهدتها البلاد طوال السنوات الماضية فهذا من قبيل الكلام المرسل الذي لا يسنده دليل مادي، أو شهادات شهود العيان، يشبه كثيرًا تلك الروايات التي رجت عقب مذبحة رابعة لتقول إن السيسي كان ضد فض الاعتصام بالقوة.

 كما أن ما نعرفه أن منصب وزير الإنتاج الحربي الذي وضعوه فيه كان يعني خروجه أو إخراجه تمامًا من معادلات الحكم والسلطة، ولا يعبر أبدًا عن التخيل الشائع بأنه العقل المدبر والمخطط والمنفذ.

الشاهد أن خروج العصار من الحياة السياسية المصرية، ومن الحياة عمومًا، مع دخول الابن الأكبر للسيسي وسط زفة إعلامية متجددة، على نحو صاخب، يذكر بأيام استمطار سحب جمال مبارك قبل ثورة يناير، يؤشر إلى أن نهاية النفق المظلم الذي حشر فيه السيسي مصر، صارت أبعد كثيرًا، وأن القادم أكثر عنفًا وتمسكًا بخنادق الاحتراب المجتمعي.

وفي ضوء ذلك، يمثل رحيل العصار مناسبة سعيدة جدًا لصنف من البشر يريد الحرب  مع الموتى والأحياء مشتعلة حتى يوم القيامة.  

وائل قنديل (العربي الجديد)
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري من أسرة "العربي الجديد" عروبي الهوية يؤمن بأنّ فلسطين قضية القضايا وأنّ الربيع العربي كان ولا يزال وسيبقى أروع ما أنجزته شعوب الأمة