الطوفان والطوفان المضادّ: صحوة المتصهين العربي
المطلوب من الفلسطينيين في غزّة أن يكونوا دجاجاً في حظيرةٍ لا يصيحون ولا يقاومون إذا ما طُلبوا للذبح، كي لا يغضب من بيده السكّين ويَحصد رقاب الجميع. المطلوب من الشعب أن يستهجن فعل المقاومة ويتوب عنه، ثم يلعن المقاومين ويتبرّأ منهم، ويرفض اعتبارهم جزءاً من نسيجه، كما مطلوب من المقاومين ألّا يكونوا وسط الأهل والجيران والمجتمع، وأن يُعلنوا أنّهم ليسوا من هذا المجتمع، وأنّهم هبطوا عليه بالمظلات، أو خرجوا من كهوف التاريخ، أو استجلبتهم من خارج هذه الأرض قوى شرّيرة، ووضعتهم عُنوَةً في قلب هذا المجتمع.
مطلوبٌ من هذا المجتمع أن يكون صحراء جدباء لا تنبت فيها المقاومة، وأن تموت الرجولة فيه فلا تنجب نساؤه مقاومين حتّى يرضى عنه الصهيوني الإسرائيلي الأميركي، والمتصهين العربي، وخدّام الصهينة والتصهين في كلّ مكان.
مطلوبٌ من محمد الضيف ويحيى السنوار أن يعترفا بأنّهما ليسا فلسطينيَين من أهل غزّة، وأن يعترفا بأصولهما البولندية أو السوفييتية أو الكرواتية، كما مطلوب من غزّة أن تُعلِن للعالم المُتحضِّر أنّها عاقر بلا رحم، لمْ ولا ولن تصلح للإنجاب، وأنّها تقبل بأنّ يقضي كلُّ كلبٍ عقور، وكلُّ ذئبٍ مسعور، حاجته منها كلّما مرَّ بها. المعروض على غزّة منذ سنوات، ويشتدّ الحصار المفروض عليها من إسرائيل ومن الليكوديين العرب للتسليم به الآن: إمّا الرضوخ لتعيين سلطة فلسطينية تتخلّى عن فكرة المقاومة، وتسقطها من حسابات الفعل وردّات الفعل، أو فسحق غزّة وتدميرها وإبادة شعبها مُستمرّ في ظروف شديدة البؤس، تتسابق فيها العواصم العربية في خدمة إسرائيل.
وأنت تطالع عدّاد الشهداء المُتحرّك بسرعة عقرب الثواني في ساعة قديمة، وتتأمّل في جثث الأطفال المُحترِقَة مُقطَّعة الأجزاء، حيث أكثر من 300 شهيد في ساعات، من الواجب أن تكون على علم بالأجواء السياسية التي وقعت فيها المذابح في مواصي خانيونس، إذ جاءت بعد مفاوضات الوفود الأمنية الإسرائيلية المُتقاطرة على القاهرة والدوحة خلال أيّام الأسبوع الفائت، وضمّت رؤساء الأجهزة الأمنية الصهيونية ذات الصلة بتخطيط عمليات الاستهداف والإغارة على قطاع غزّة، من الشمال عند بيت لاهيا وجباليا، إلى الجنوب حيث رفح وخانيونس، مروراً بالوسط، إذ ركّزت المفاوضات، بحسب المعلن في الإعلامَين الصهيوني والعالمي، على مناقشة إحكام الخناق على المقاومة، ومنع وصول السلاح إليها، ومحاصرة قياداتها في قطاع غزّة، كما جرى في القاهرة الخميس الماضي، استكمالاً لمفاوضاتٍ سبقتها يومي الاثنين والثلاثاء، في القاهرة أيضاً، بين رئيس الشاباك رونان بار، ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وليام بيرنز، وكبير مستشاري الرئيس بايدن بريت ماكغورك، ورئيس المخابرات المصرية عبّاس كامل.
الشاهد أن المذبحة تمتّ بعد انتعاش جهود الوساطة القطرية المصرية الأميركية، وتدفّق الوفود الأمنية الإسرائيلية على العاصمتَين العربيتَين، بحثاً عن صفقات تهدئة أو هدنة يريدها الرئيس الأميركي الشائخ فوق مقعده جو بايدن، ويطلبها كلّما شعر بتضاؤل فرصه في الاحتفاظ بمنصبه.
هنا يثور سؤال منطقي: من أين هذه الثقة الساذجة في أنّ المسؤول الأمني الصهيوني المُتخصّص بالجانب المعلوماتي في تنفيذ العمليات الإجرامية، التي تقوم بها الآلة العسكرية الإسرائيلية، يمكن أن يكون طرفاً وشريكاً في مفاوضات الوسطاء من أجل التوصّل إلى صفقة تتسلّى بها الإدارة الأميركية؟ وما الذي يضمن ألّا تكون المناقشات المُطوّلة التي يجريها قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مفيدةً في المستوى المعلوماتي لصانع قرار تنفيذ الجرائم الصهيونية ضدّ قادة المقاومة، كما في آخر عملية استهدفت القائد العسكري لها محمد الضيف ونائبه؟ ولماذا لا يُجرّب العرب أن يكونوا أوفياء لفكرة حقّ الشعب الفلسطيني في مقاومة العدو مثلما هم أوفياء، حتّى النخاع لمشروع الوساطة، التي صرّح مصدران رسميان من الجانب المصري بشأنها لوكالة رويترز أمس، بأن إسرائيل ليس لديها نيّة حقيقية للتوصّل إلى اتّفاق، وأنّ سلوك المفاوضين الإسرائيليين يكشف عن "عدم اتّفاق داخلي".
أسقطت مذبحة الأيام الثلاثة الفائتة ورقة التوت الأخيرة عن ذلك الكيان المغروس في لحم فلسطين الحي بالقوة والرغبة الإسرائيلية، والذي يسمى السلطة الفلسطينية، المقاومة الفلسطيني، وانطلقت تنهش في لحم الضحايا برعاية الإعلام العربي الليكودي وحفاوته، عبر مداخلات مسعورة للناطقين باسم هذه السلطة، الذين تفوّقوا على إيتمار بن غفير في العداء والكراهية للمقاومة، أو من خلال بيان رسمي تقول فقرة منه: "ورغم إدراكنا أنّ دولة الاحتلال لا تحتاج إلى مبرّرات وذرائع لتنفيذ جرائمها في حقّ شعبنا، إلّا أنّها، في الوقت نفسه، تستفيد من أيّ ذريعة تجدها لتبرير ما ترتكبه من جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية، بحُجّة أنّها تدافع عن نفسها، ما يجعل أيّ جهة تُقدّم الذرائع لها شريكاً في تحمّل المسؤولية عما يلحق بشعبنا من مآسٍ ونكبات على يد قوات الاحتلال ... وتعتبر الرئاسة حركة حماس بتهرّبها من الوحدة الوطنية، وتقديم الذرائع المجانية لدولة الاحتلال شريكاً في تحمّل المسؤولية القانونية والأخلاقية والسياسية عن استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، بكل ما تتسبب به من معاناة ودمار وقتل لشعبنا".
هذا النوع من الفحيح الرسمي الصادر عن سلطة محمود عبّاس، التي تتصوّر أنّها ستظفر بموافقة الاحتلال الصهيوني على أن تحكم غزّة بعد أن ينتهي من تدميرها، يتدحرج بتكثيفٍ مصنوعٍ بإحكام، من قنوات عربية تجاهر بالعداء للمقاومة إلى غابات "السوشيال ميديا"، حيث طوفان من التحبيط والتثبيط يحاول جرف الذات العربية إلى التصهين روحاً وعقلاً، من خلال نصّ واحد تردّده قطعان من المُتربّصين بفكرة المقاومة أصلاً، يُحمّلها المسؤولية عن مأساة الشعب الفلسطيني في غزّة، وكأنّها كانت قطعة من سويسرا قبل "طوفان الأقصى"، أو كأنّ العدوان الهمجي لم يكن يزورها بانتظام كلّ عامَين على الأكثر، ليَقتل ويُدمِّر ويُبيد، قاومت أم لم تقاوم.
هذا الطوفان المضادّ من الحرب النفسية أخطر على العرب وفلسطين من العدوان العسكري، الذي يشنّه الكيان الصهيوني على غزّة منذ تسعة أشهر، كانت كافيةً لولادة جيل جديد يمتلك وعياً سليماً يصحّح تاريخ القضية الفلسطينية في مستوى العالم كلّه.