حضرموت ثغرة أمنية سعودية
تعبّر الاحتجاجات الشعبية المتضادة، في محافظة حَضْرَموت اليمنية، عن الإرادات المتعارضة التي تحاول إعادة صهر المحافظة ضمن أجنداتٍ انفصاليةٍ مدعومة خارجيًّا، وتلك التي تُصِر على إبقائها ضمن ترتيبٍ إداريٍّ ليس سواه الدولة الاتحادية، فالمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يتبنّى مشروع انفصال جنوب البلاد، وحدة واحدة، عن شمالها، تُعارضه مكوّناتٌ حضرمية تنادي بوضع مستقل لحضرموت داخليًّا وخارجيًّا، في أيِّ تسويةٍ سياسيةٍ نهائية بين جميع فرقاء الحرب، أو جعلها كيانًا فيدراليًّا ضمن مشروع الدولة الاتحادية، الذي خرج به مؤتمر الحوار الوطني الشامل عام 2014.
الواقع أنَّ هذه الاحتجاجات ليست وليدة اللحظة الراهنة، وإنما امتدادٌ لموجاتٍ احتجاجيةٍ سابقة، تتفق في الدوافع والأهداف، وتتعارض معها أحيانًا، وقد كانت بدايتها القوية نهاية عام 2013، عقب مقتل زعيم حلف قبائل حضرموت الشيخ سعد بن حبريش الحَمُومي، ثم عادت أواخر عام 2017، عقب تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي، واستمرّت على نحو ذلك، أو أقل، طوال السنوات الخمس التي تلت.
إثارة الفوضى، مجدّداًّ، شمالي وشرقي حضرموت (سيْئون وتَريم وشِبام)، أمرٌ بالغ الخطر
بوجه عام، ظلّت حضرموت ثماني سنوات في منأىً عن التجاذبات العنيفة للحرب، التي ذاقت ويلاتها مناطق أخرى، بما فيها المجاورتان لها، شَبْوة ومأرِب، وكان لعوامل عدة دورٌ في ذلك، من أهمها البُعد عن بؤر الصراع التي شغلت قوى الحرب عنها، والثِّقَل العسكري الحكومي المتمركز في شمالها (الوادي والصحراء)، ممثلًا بالمنطقة العسكرية الأولى؛ حيثُ ظل ذلك محسوبًا على الرئيس عبد ربه منصور هادي ونائبه علي محسن الأحمر، حتى تولِّي مجلس القيادة الرئاسي مقاليد السلطة في 7 إبريل/ نيسان 2022، إضافة إلى الموقف الصارم تجاه بواعث الفوضى، خصوصًا القاعدة، الذي انتهجه محافظ المحافظة السابق، اللواء فرج البحسني، من موقعه السياسي هذا، وبوصفه قائدًا للمنطقة العسكرية الثانية التي ضمَّت قواتٍ متجانسة، ينتمي معظم منتسبيها إلى حضرموت (الساحل) نفسها.
لا نغفل دور عوامل أخرى تتعلق بالحسابات الأمنية على الجوار السعودي، وضغوط البيوتات التجارية الحضرمية العملاقة في الخليج، خصوصًا السعودية، التي فرضت، كلُّها، توافقًا مؤقتًا بين التحالف والقوى التي يدعمها، بما فيها الحكومة المعترَف بها دوليًّا، على أن تبقى حضرموت على هذا الحال، وليس أدلَّ على ذلك من الطريقة التي جرى التعامل بها مع جماعة أنصار الشريعة التابعة لتنظيم القاعدة، التي سيطرت على المدن الساحلية لحضرموت منتصف عام 2015، ثم استعادها التحالف أواسط العام الذي تلاه، عبر معركةٍ خاطفةٍ وغامضة لا تزال تثير جدلا كثيرا.
إثارة الفوضى، مجدّداًّ، شمالي وشرقي حضرموت (سيْئون وتَريم وشِبام)، أمرٌ بالغ الخطر؛ نظرًا إلى أنَّ مجلس القيادة الرئاسي الحاكم، المكوَّن من ثمانية أشخاص، يعاني انقاسماتٍ حادّة، ومأخوذ بولاءات خارجية تحدُّ من استقلال إرادته السياسية، وفقًا لما كشفه أداؤه الهزيل والمرتبك خلال الأشهر الستة التي أمضاها في السلطة، ويضاعف هذا الخطر أنَّ هذه الاحتجاجات قد تقود إلى عنفٍ مسلح بين المجلس الانتقالي الجنوبي، والمكونات الحضرمية المناوئة، مدعومة بقوات الجيش المتمركزة في حضرموت (الوادي والصحراء).
الواضح أنَّ العنف المتوقع في حضرموت (الوادي والصحراء) مدفوعٌ، أولًا، بالمكاسب التي حققها المجلس الانتقالي الجنوبي، ومن ورائه الإمارات، في محافظتي شبوة وأَبْيَن، خلال فترة تولّي مجلس القيادة الرئاسي مقاليد السلطة، وأنَّ الهدف التالي لحضرموت سيكون محافظة المَهْرة المجاورة، ليستكمل المجلس الانتقالي، بذلك، السيطرة على المحافظات الجنوبية، فهل ستسمح السعودية بهذا التحوّل الخطير على أمنها القومي، بعدما أبقت على حلفاء الإمارات، خمس سنوات، على مسافةٍ آمنةٍ من حدودها، أم أنها منخرطة في هذه اللعبة؟
فرصةٌ مؤكّدةٌ لعودة نشاط تنظيم القاعدة، والتحام الجناح السعودي للتنظيم بالجناح اليمني
الملاحظ أنَّ هذا الجدل يثورُ في ظل المساعي الرامية إلى تشتيت قوات المنطقة العسكرية الأولى، المتبقية من الجيش السابق، بذريعة إعادة تكامل القوات المسلحة، التي تضمَّنها إعلان انتقال السلطة إلى مجلس القيادة الرئاسي، وقبله اتفاق الرياض عام 2019، لكنَّ هذه الإجراءات، في المقابل، لم تمُسْ التشكيلات المسلحة التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي. وهذا ما يقود إلى الاعتقاد بأن ثمة ترتيبًا معينًا جرى التوافق عليه بين السعودية والإمارات، بحيث يكون للأولى وجود عسكري يُسقط مخاوفها من القوات المدعومة إماراتيًّا، وقد يكون هذا الوجود أكبر، بكثير، من قواتها الموجودة في أرخبيل سقطرى، ضمن تفاهماتٍ مماثلة، والتي تقدر بنحو ألف جندي، من قوات الواجب السعودية 808.
في كل الأحوال، من شأن خطوة كهذه فتح ثغرةٍ أمنيةٍ خطيرة في الجدار الحدودي بين السعودية واليمن، لتُضاف إلى الثغرات الأخرى الممتدة على طول الشريط الحدودي مع الحوثيين، ابتداءً من أطراف نجران الغربية، ومرورًا بعَسِير، وحتى جَيْزان على البحر الأحمر. وهي، كذلك، فرصةٌ مؤكّدةٌ لعودة نشاط تنظيم القاعدة، والتحام الجناح السعودي للتنظيم بالجناح اليمني، عند هذه الحدود.