حريق هرجيسا الصومالية الكبير
بدأ يوم الأول من إبريل/ نيسان الجاري عاديا في عاصمة جمهورية صومالي لاند المعلنة من طرف واحد، هرجيسا، ولكن وقع ما لم يكن في الحسبان في الساعة السابعة مساءً، فقد اندلع حريقٌ هائل في سوق واهين؛ أكبر سوق في المدينة، والتهمته النيران بأكمله. تسمّر الملايين أمام الشاشات وأمام مواقع التواصل الاجتماعي لمتابعة ألسنة النيران، وهي تفتّت مباني السوق واحدًا بعد الآخر في مساحة تمتد خمسة كيلومترات. ترافقت مع الحريق سحابة دخانية كثيفة، غطّت سماء المدينة، حتى ظن الجميع أن الحريق سيلتهم المدينة بأكملها، وهو ما لا نجد له في ذاكرة احتراق المدن مثيلا سوى حريق لندن الكبير عام 1666.
لحسن الحظ، لم يسفر الحريق عن خسائر بشرية. لكن التقديرات الرسمية تفيد بأن الخسائر المادية بلغت ملياري دولار، مما يعني انها أكبر هزة اقتصادية تشهدها الجمهورية غير المعترف بها، والتي تعاني بالفعل من مشكلات اقتصادية من ارتدادات جائحة كوفيد 19، والعزلة الدولية المفروضة عليها بسبب نزاعها على السيادة مع الحكومة الصومالية الفيدرالية، حيث تصرّ حكومات صومالي لاند على عدم استقبال أي مساعدات أو استثمارات خارجية تمرّ عبر سلطات مقديشو؛ كونها منفصلة عن باقي الصومال منذ عام 1991. وعلى الرغم من افتقارها إلى الاعتراف الدولي، فقد حافظت صومالي لاند على نظام حكم خاص بها، ولديها نظامها المالي المستقل وعملتها الخاصة. ونجحت الجمهورية إلى حد كبير في إجراء انتخابات منتظمة آخرها الانتخابات البرلمانية التي جرت العام الماضي. (أنظر مقال الكاتب في "العربي الجديد"، "انتخابات صومالي لاند وسؤال المصير" 18/6/2021).
الخسائر المادية بلغت ملياري دولار، مما يعني انها أكبر هزة اقتصادية تشهدها الجمهورية غير المعترف بها
لاقى حريق هرجيسا اهتماما إعلاميا لافتا من الإعلام العالمي، المرئي منه والمكتوب. كما أدلى مسؤولون غربيون عديدون ورؤساء دول في الجوار تصريحات تضامنية، وأرسل بعضهم وفودا إلى موقع الحريق في يوم وقوعه، فقد أوفدت إثيوبيا وزير المالية أحمد شيري (من منبت صومالي)، وساهمت طواقم من الحكومة الإقليمية الصومالية في إثيوبيا في عملية إخماد النيران، وذلك في أبهى صور لمعاني التضامن الصومالي العابر للحدود الوطنية، كما أرسلت جيبوتي أعضاء من حكومتها الى موقع الحادثة. وكذلك فعلت بعثات دبلوماسية في هرجيسا، وتضامن مسؤولون غربيون آخرون، منهم رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، الذي غرّد إن بلاده ستفعل ما في وسعها لدعم جهود إعادة بناء هرجيسا.
أما المواقف العربية فكانت مخجلة، وإن ليس في مقدور المرء أن يستغرب هذا، بسبب طبيعة الأنظمة العربية الحاكمة وظروفها، ورؤيتها إلى جوارها الأفريقي، والذي تظن لوهلة أنهم يقعون في أقصى العالم، مع أنهم في أقرب منطقة جغرافية لهم وتربطهم بالصومال روابط شتى، لكن اللافت والباعث على الاستغراب، أو لنقل الاستهجان، الغياب التام لتغطيات الإعلام العربي لكارثة بمثل هذا الحجم والقرب. وهنا يجب التفصيل وطرح السؤال في أكثر من صيغة وطريقة، لماذا لم يهتم الإعلام العربي بحريق هرجيسا؟ هل هو تجاهل متعمّد أم جهل به؟ غير أن السؤال لا يستقيم بدون تشريح علاقة الإعلام العربي، ليس مع صومالي لاند فقط، وإنما أيضا مع المسألة الصومالية عموما. والصومال دولة عضو في الكيان السياسي العربي، تظهر في أسفل شريط الأخبار بدون وقفة حقيقية لمحاولة التعرّف إلى ما يحدث هناك. وسياسيا، وحسب الحسابات الجيواستراتيجية، التي من أجلها انضمت الجمهورية الصومالية في السبعينيات إلى جامعة الدول العربية، كان من الأجدى أن تهتم مصر، وكذا دول خليجية مشغولة بإنقاذ المريخ، بكارثة في بلد عربي بهذا القرب. وحدها الخارجية الإماراتية أصدرت بيانا تضامنيًا، لكن الإعلام الإماراتي غطّى البيان أكثر مما غطى الحدث نفسه.
دمّر الحريق نحو 50% من اقتصاد المدينة، ومعظم المؤسّسات المتضرّرة غير مسجلة لدى الحكومة
قبل الحريق؛ كانت البلاد تمر في دوامة هبوط اقتصادي بسبب مضاعفات جائحة كورونا وارتفاع معدّلات البطالة، فستة من كل عشرة مواطنين بدون عمل، ويزيد الحريق من اتساع حدّة خط الفقر وسط الطبقتين الدنيا والوسطى. فبحسب رئيس غرفة التجارة في هرجيسا، جمال عيديد، دمر الحريق نحو 50% من اقتصاد المدينة، ومعظم المؤسّسات المتضرّرة غير مسجلة لدى الحكومة، ويشغلون عمالة غير منظمة، ومن بينهم لاجئون يمنيون وسوريون وإثيوبيون، ما يطرح الحاجة إلى خطط دعم شاملة من أجل تقديم الدعم المباشر للمؤسسات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة المتأثرة. ويستلزم ذلك صرف منح نقدية للأفراد والمؤسسات لتجديدها وإعادة بنائها. ويجب أن يكون ذلك مصحوبا بتقديم الدعم الفني والتدريب للمؤسّسات المتأثرة على شكل تدريبٍ في مجال استمرارية الأعمال، فالمؤسسات العاملة في الاقتصاد غير المنظّمة لديها قدرات وموارد محدودة لمواجهة آثار الأزمة، حيث إنها تعمل في أسواقٍ تتسم بأرباح محدودة للغاية، وفرص ضعيفة للاستمرار في العمل. وبالتالي، هنالك حاجة إلى استجابات متخصّصة للوصول إليهم ودعمهم في التعامل مع الأزمة، وتمهيد الطريق لهم لانتقال إلى الاقتصاد الرسمي المنظم، بما في ذلك أنظمة الحماية الاجتماعية، مثل التأمين الاقتصادي الذي بدأ ينتشر في الآونة الأخيرة. والأهم في هذا كله، وهو الدرس الذي تعلّمنا إياه هذه الكارثة، هو التفكير الجدّي بإعادة تخطيط الأسواق ورفع الجاهزية في مواجهة كوارث مثيلة في المستقل.
أخيرًا، دفعت هذه الكارثة الحكومة الصومالية إلى الإفراج عن 11 مليون دولار كانت مجمّدة في البنك الصومالي المركزي بسبب خلافات سياسية، وأعلنت أنها صرفته لصالح صندوق التبرّعات لإعادة بناء السوق، وهو ما يعطى دفعًا أمام إيجاد طريقة لولوج المساعدات الخارجية المباشرة إلى صومالي لاند، وتبقى المهمة الصعبة والملحّة أمام الحكومة في صومالي لاند في سرعة تنفيذ برامج شاملة لتأهيل المتضرّرين. وسيترجم هذا على المستوى الداخلي في الانتخابات الرئاسية المقرّرة في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، حيث سيكون حساب الحكومة صعبًا أمام المعارضة التي فازت في الانتخابات البرلمانية في العام الماضي، ما لم تسجّل الحكومة اختراقًا حقيقيًا للتعافي من هذه الأزمة، وهو ما يبدو مستحيلًا بدون إيجاد طريقة لفتح القنوات أمام العالم الخارجي، حتى لو جرى ذلك بالتنسيق مع الحكومة الصومالية.