حروب السايبر… قراءات في العقيدة الإسرائيلية وأفعالها (2- 2)
تنخرط إسرائيل في هجماتٍ غير مرئية لنا تندرج في إطار حرب السايبر، ولا يختلف سلوكها فيها كثيراً عمّا هو عليه في حروبها المباشرة، لجهة انتهاك حقوق الإنسان وارتكاب جرائم الحرب والاعتداء على سيادة الدول. يتفق الباحثون في هذا المجال على توصيف هذا النوع من الحروب بالنظيفة، لأنّها تجري من دون إراقة الدماء، إلّا أنّ إسرائيل أدمتها عبر استخدام أدواتها للقتل الجماعي المباشر. تستعرض هذه المطالعة في جزأين قراءات في حروب السايبر الإسرائيلية؛ استراتيجيتها وعقيدتها وأساليبها الفاشية، مروراً بأبرز الهجمات غير المسبوقة من نوعها، والمنسوبة إلى ذراعها السيبرانية سيئة السمعة الوحدة 8200، وتبسط حيّزاً في العرض لهذه الوحدة، ولمشاريع الذكاء الاصطناعي الواردة في كتاب قائدها يوسي سارئيل، والتي يتبيّن أنّها موجودة فعلياً ويجري تنفيذها في حرب غزّة ولبنان، لكن بنسخة أكثر إجرامية.
في حوار يدور بين وينستون بطل رواية جورج أورويل (1984)، وسجّانه أوبراين، بعد جولات من التعذيب. يقول الأخير "نحن لا نهتم إلا بالأفكار. إننا لا نكتفي بتدمير أعدائنا؛ إننا نغيرهم". يردّد وينستون: "سوف يهزمونكم في النهاية. سوف يرون حقيقتكم عاجلًا أم آجلًا. وسوف يمزّقونكم إربًا إربًا".
أوبراين: "ما هو المبدأ الذي سيهزمنا؟"
وينستون: "لا أدري، روح الإنسان؟"
أوبراين: "وهل تعتبر نفسك إنسانًا؟"
وينستون: "نعم".
"إذا كنت إنسانًا يا ونستون، فأنت الإنسان الأخير. إن جنسك منقرض. ونحن هم الوارثون. هل تفهم أنك وحدك؟ أنت خارج التاريخ. أنت غير موجود". بعد جولات أخرى من التعذيب، يكتب وينستون بحروف خرقاء شعار الأخ الأكبر: "الحرية هي العبودية".
يعود إليه أوبراين قائلًا إنّ هذا غير كاف فـ"عملية إعادة الاندماج (في الحزب) ثلاث مراحل: التعلّم، الفهم، القبول"، وأنت يا وينستون لم تصل بعد إلى مرحلة القبول.
الوحدة 8200
لم تُنشأ الوحدة 8200 حديثاً، هي امتداد لعمل وحدة الاستخبارات 515 التي بدأت في خمسينيات القرن الماضي. عادت وغيّرت اسمها إلى فرقة أخرى قبل أن تصير الوحدة 8200. ذاع صيتها بوصفها ذراعاً سيبرانية قويّة، تعتمد أساليب الاستخبارات القديمة في الأنظمة الفاشية، لكن عبر تقنيات حديثة. ربطتها عدّة مصادر أجنبية بأبرز الهجمات السيبرانية بالغة التأثير، ومنها هجوم ستاكسنت Stuxnet وفلايم flame (2012). يبدأ اختيار عناصرها في سنّ صغيرة (بين 16 و18 عامًا) عبر عمليات وإجراءات خاصة لانتقاء النخبة فيهم. يعاين صحافي في فاينانشال تايمز، عبر تحقيق نشره في يوليو/ تموز 2015 [i]، المراحل الأولى من عملية الاختيار، مستعرضاً شهاداتٍ حول أساليب عمل الوحدة وثقافتها. ويتساءل بين سطور تحقيقه: "ماذا نقول عن دولة تزجّ ألمع شبابها في وحدة للتجسّس؟" فعلاً ماذا يُقال عنها؟
ذاع صيت الوحدة 8200 بوصفها ذراعاً سيبرانية قويّة، تعتمد أساليب الاستخبارات القديمة في الأنظمة الفاشية، لكن عبر تقنيات حديثة
تبدأ عملية تجنيد هؤلاء الفتية، بحسب التحقيق نفسه، عند إنهائهم مرحلة التعليم الثانوي، وتحديداً في حفل تخرّج الطلاب المميّزين، يسمّى حفل Magshimim ويستهدف الفئات الأكثر فقراً (هناك برنامج آخر مماثل للفئات الميسورة). يموّل هذا الحفل الحكومة الإسرائيلية ومؤسّسة راشي Rashi، وهي هيئة خدمية اجتماعية أُنشئت في 1984 وتستهدف المواهب الناشئة، ولها شراكات مع الحكومة والقطاع الخاص. يخضع المتقدّمون إلى حضور الحفل لشروط صعبة، واختبارات صارمة لمعرفة قدراتهم في مسائل البرمجة واللغات و"التفكير خارج الصندوق"، بحسب ما يردّد قادة الوحدة، مع استثناء فلسطينيي الداخل طبعًا.
يتجوّل عناصر الجيش الإسرائيلي في هذا الحفل، باحثين عن المواهب اليافعة. يتحدّثون مع الفتية من دون أن يقولوا لهم إنّ للأمر علاقة بالوحدة 8200، لكن يؤكّدون لهم أنّهم سيتلقون دعوات إلى إجراء مقابلات في مراكز عسكرية مختلفة تابعة للجيش. حول هدف المقابلات التي يجريها الجيش الإسرائيلي لاختيار ألمع الطلاب، تذكر حلقة حول الوحدة 8200 في البرنامج الصوتي الشهير Darknetdiaries [ii]، الذي يتناول قضايا سيبرانية، بأنّه أشبه بتمييز الرؤوس الكبيرة rosh gadol وتلك الصغيرة rosh katan ثم تجنيد الرؤوس الكبيرة في الوحدة؛ فإسرائيل تفضّل أولئك الذين يتحدّون الوضع القائم ويفكّرون في طرق جديدة لإدارة العمل وحلّ المشكلات.
في البرنامج نفسه لقاءات مع مجنّدين حاليين وسابقين في الوحدة، لا يكشفون الكثير عن المراحل الأولى من الانخراط وطبيعة العمل، لكنهم يتحدّثون عن تدريبات جسدية ونفسية وعلمية صارمة تمتد ثلاث سنوات، يتقنون خلالها مهارات تقنية عالية، ويتعلّمون كيف يحلّون المشكلات في وقتٍ قياسي. يقول أحدهم إنّه كلّف مرّة بمهمة اختراق أجهزة حواسيب دولةٍ معادية، وسرقة بياناتٍ محدّدة. نجح في الاختراق، لكنه واجه مشكلة التشفير؛ يستطيع فكّ الشيفرة، لكن ذلك سيستغرق معه وقتاً أطول. عندها تذكّر أنّه خلال مهمة اختراق سابقة لدولة معادية أخرى، عثر على محطة تكسير شيفرات ضخمة، فما كان به إلا أن عاد إلى اختراق تلك المحطة في الدولة ب، وحمّل عليها البيانات المشفّرة من الدولة أ؛ فكّ التشفير، وعاد بالبيانات المطلوبة إلى رؤسائه، من دون أن يترك أي أثر وراءه. هكذا يتحرّك جنود السايبر الإسرائيليون في الفضاءات السيبرانية للدول، تمامًا كما يتحرّك زملاؤهم في المجالات البرّية والجوّية والبحرية.
ثقافة التمرّد، والمغامرة، وعدم الالتزام بالقواعد وانتهاكها، طاغية داخل عمل الوحدة وعناصرها، وتلقى تشجيعاً من المسؤولين. الدافع الأساسي للعاملين إنجاز المهمة، بغض النظر عن الأساليب المستخدمة. يقول ضابط رفيع سابق عمل في الوحدة وأسس لاحقًا شركته السيبرانية الخاصة Firmitas Cyber Solutions، ويدعى رامي إفراتي: "لا يمكنك العمل وفقًا للقواعد فقط" (تحقيق فاينانشال تايمز).
يشبّه جنديٌّ في الوحدة أساليب التجسّس فيها، بما كان جاريًا داخل جهاز الاستخبارات في ألمانيا النازية ستاسي stasi. ويقول إنّه فوجئ حين حضر للمرّة الأولى فيلم the lives of others الذي يتحّدث عن أساليب عمل ستاسي.ثقافة التمرّد، والمغامرة، وعدم الالتزام بالقواعد وانتهاكها، طاغية داخل عمل الوحدة 8200 وعناصرها، وتلقى تشجيعًا من المسؤولين
في رسالة تمرّد وُجّهت إلى رئاسة الحكومة والاستخبارات العسكرية مؤرّخة في 11 سبتمبر 2014[iii]، يكشف 43 إسرائيليًّا خدموا في الوحدة عن أنّ حيوات الفلسطينيين في الأراضي المحتلة مكشوفة بالكامل لعمليات التجسّس والمراقبة من قبل الاستخبارات الإسرائيلية. يتحدّثون عن "معضلة أخلاقية داخل الاستخبارات العسكرية، تلحق الأذى بأشخاص أبرياء، وأساليب تجسّس لا تميّز بين أولئك الذين يرتكبون أعمال عنف وغيرهم من الفلسطينيين"، مشيرين إلى توجّه لزرع الشقاق داخل المجتمع الفلسطيني، عبر تجنيد عملاء وتقليب الفلسطينيين بعضهم ضدّ بعض.
يكلّف العاملون في الوحدة بجمع معلومات خاصة عن الفلسطينيين بغضّ النظر عن سجلّهم الأمني لدى إسرائيل، ومنها أوضاعهم الصحية والمالية والحياة الخاصة وميولهم الجنسية. وجمع المعلومات يجري عبر عدّة أدوات، منها التنصّت على المحادثات الهاتفية، ومنها أساليب ابتزاز الفلسطينيين الذين يسعون للحصول على تصاريح عمل أو تنقّل، عبر ما يوصف بـ"فخاخ العسل".
أساليب أخرى للابتزاز والتجسّس يمكننا رصدها من شهادات بعض الجنود الذين وقّعوا الرسالة أعلاه. يقول أحدهم إنّ التجسّس لا يتوقف عند الشخص المستهدف (أو المشتبه به)، بل يمتدّ إلى كلّ أفراد العائلة؛ الأب، والأمّ، والإخوة، وعلاقاتهم العاطفية، ويدخل في تفاصيل الأمور الشخصية. والهدف هو البحث عن سرّ ما يخفيه أحد أفراد العائلة. وعبر هذا السرّ، تبدأ لعبة الابتزاز للحصول على معلومات.
القوةّ البشرية الآلية المتفوّقة كما ينظّر لها قائد الوحدة 8200
إضافة إلى النَّزر اليسير المسرّب عن أساليب عمل وحدة السايبر الإسرائيلية، يأتي علينا قائدها يوسي سارئيل بأفكار ومشاريع لتوظيف الذكاء الاصطناعي في المجالين العسكري والاستخباري؛ لنُفاجَأ نحن الذين يتابعون يوميات حرب الإبادة منذ 7 أكتوبر، بأبشع تفاصيلها، أنّ تلك المشاريع ليست بمشاريع على ورق، بل أشغال قائمة وجارية، وغزّة ساحة تجاربها الأولى، لكن بأسلوب أكثر إجراماً ينزع عنها أيّ حسّ إنساني محتمل، ليبدو معها الفريق البشري الآلي المطروح في كتاب سارئيل، نسخة طريّة من برنامجي لافندر وغوسيب.
أثار الكتاب "الفريق البشري-الآلي" The Human-Machine Team [iv] بعض الجدل عند إصداره في 2021؛ فهو لم يوقعه باسمه الكامل، بل بالأحرف الأولى Y.S، معرّفًا نفسَه بأنّه قائد وحدة في الجيش الإسرائيلي. غير أنّ صحيفة الغارديان كشفت هويته لاحقاً في تحقيق، مستندة إلى أثر رقمي في نشر كتابه على موقع "أمازون"، وهو ما عُدّ خرقاً أمنيّاً للاحتلال.
يقدّم قائد الوحدة مشروعه "The Human-Machine Team" أنّه عملية تآزر synergy بين الذكاءين الآلي والبشري لمعالجة كمٍّ هائل من المعلومات الاستخبارية، وتوظيف ذلك كله في ساحة المعركة.
يقول إنّ كتابه (استحصل على موافقة الجيش الإسرائيلي لنشره) يأتي في إطار دراسة استغرقت عاماً في جامعة الدفاع القومي الأميركية. يقدّمه أنّه دراسة بينية؛ بين النظرية والواقع، والماضي والمستقبل (يستهلّ كتابه بجملة لأبراهام لينكولن: "إنّ أفضل طريقة لتوقّع المستقبل، هي أن تخلقه"؛ غرورٌ لا يُحتمل)، بين الثورة الصناعية الرابعة وتلك المقبلة؛ بين علم التكنولوجيا والقيادة، وبين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، حيث سيشكل هذا الاجتماع بين الذكاءين ما يصفه بقوّة الإدراك الفائقة super- cognition، القادرة على مواجهة تهديدات الأمن الوطني وتحقيق النصر.
بكثير من الحماسة مع ما يتخلّلها من تكرار مملّ ومحاولة تنظيرية من رجل استخبارات (يحاول أن يروّج نفسه صاحبَ فكر، بحسب ما نقرأ في أكثر من موقع يتحدّث عنه)، يستعرض مراحل تطوّر الذكاء الاصطناعي وإمكانياته الهائلة في جمع البيانات الضخمة، ومعالجتها وتصنيفها، وهو أمرٌ قد يستغرق عشرات آلاف السنين من الذكاء البشري للقيام به، قبل أن يقدّم خلاصاته واقتراحاته لتشكيل ذلك البناء الهجين الذي يجمع قوّتي الذكاء الآلي والبشري.
يعرض قائد الوحدة السيبرانية رؤيته للعمل الحربي والاستخباري في الفضاء السيبراني، ويتناول أمثلة لتوظيف التكنولوجيا في الحروب، وما يسكن العقل الإسرائيلي من أفكار بشأن المواجهات المقبلة، والنظرة إلى الأعداء، وهوية هؤلاء الأعداء، وما يُخطّط له من مشاريع لجعل الحروب الإسرائيلية ذكية وانتصاراتها حتمية. يصف العمل داخل "الفريق البشري - الآلي" بـ Havruta، وهي طريقة تفكير يهودية مستوحاة من قصة توراتية بين رجلين (يوحانان رئيس مدرسة يهودية ولاكيش زعيم المافيا)، أحدهما يملك الجمال والثاني القوّة، وقرّرا العمل معاً، للوصول إلى قوّة الإدراك الفائقة super- cognition؛ تلك التي تشغل بال سارئيل طوال عدد صفحات كتابه المئتين.
يقول إنّ الجيش الإسرائيلي خاض حروباً في السنوات العشرين الماضية بشعور وصفه بالهاشماتزا hachmatza ويعني الفرص الضائعة؛ فعقب حرب لبنان عام 2006، ضيّعت القوات الإسرائيلية فرصة هزيمة حزب الله وتحقيق نصر حاسم (مستندًا إلى نتائج تحقيق اللجنة الحكومية)، وبأن كل العمليات العسكرية في غزّة خلال 15 عاماً انتهت بلا تحقيق نتائج محدّدة.
من مهام الفريق الآلي البشري، جمع معلومات استخبارية هائلة من المصادر المفتوحة والمغلقة، ثم معالجتها وتصنيفها وتحليلها
وبما أنّ جميع الحروب التي خاضتها إسرائيل في العقود الأخيرة كانت غير متكافئة، يعني خاضتها مع مجموعات وتنظيمات مسلّحة (قوى المقاومة) وليس جيشًا نظاميًّا، فإنّ أبرز التهديدات التي على الفريق البشري الآلي مواجهتها، هي: أولاً، هجمات "الذئاب المنفردة"، ويعني بذلك العمليات الفلسطينية في الداخل، أو التي قد تتعرّض لها المصالح الإسرائيلية في الخارج، إضافة إلى ثانياً مسألة حماية الحدود. وثالثاً، القوّة الصاروخية الضخمة لحزب الله. ويقول إنّه في حرب 2006، أطلق حزب الله حوالي 4000 صاروخ باتجاه إسرائيل خلال 33 يوماً. ويخطط في أي حرب مقبلة ضرب آلاف الصواريخ يوميًّا، ما يشكّل تحديًا أمنيًّا هائلًا أمام إسرائيل، "بحيث لن تستطيع القدرات القتالية التقليدية أن تهزم العدوّ بشكل كامل"، وهنا يأتي دور الذكاء الآلي والبشري معًا للتغلّب على التهديدات.
كيف يتخيّل القائد الاستخباري إسرائيل في عام 2040، وهيكلية مؤسساتها العسكرية والاستخبارية؟ يقول إنّ كتلة البيانات الضخمة التي تمتلكها كلّ الأجهزة الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية ستكون على درجة عالية من التنظيم، وستتولى آلات الذكاء الاصطناعي مهام معالجة وتحليل بيانات استخبارية ضخمة مكتوبة وصوتية (عبر التنصّت على لغات متعدّدة) وبصرية، بسرعة قياسية ودقة عالية، وتلك المهام كانت ستستغرق عشرات السنين من العمل وتتطلّب جيشًا من محلّلي البيانات. وستصير المعلومات التي تجمعها المسيّرات جزءًا من كتلة البيانات تلك، كما ستصبح البيانات والسرّية وغير السرّية جزءًا مما يسميه "الشبكة المغلقة-المفتوحة-المغلقة" closed-open-closed network، بحيث يمكن الحفاظ على المعلومات السرّية وفي الوقت نفسه الاستفادة من الشبكة المفتوحة.
ومن مهام الفريق الآلي البشري، جمع معلومات استخبارية هائلة من المصادر المفتوحة والمغلقة، ثم معالجتها وتصنيفها وتحليلها. يقول سارئيل إنّ "التفوّق الاستخباري" (التفوّق!) يتمثل في القدرة على معرفة "كل شيء عن كل شخص".
ما هي الإمكانيات التي يُتيحها الفريق البشري الآلي للحروب الإسرائيلية؟ الإمكانية الأولى، تتمثل في إنشاء لائحة أهداف متصلة قبل بدء الحرب؛ عشرات الآلاف منها، وإنشاء آلاف الأهداف الجديدة يوميّاً أثناء المعارك. يقدّر الجنرال الإسرائيلي أنّه مع هذا الفريق البشري الآلي، سيتم وضع أكثر80 ألف هدف قبل المعارك، و1500 هدف في أثنائها، ويصبح سلاح الجوّ معها، العامل الحاسم في الحرب، بفضل المعلومات الاستخبارية الدقيقة التي وفّرتها التكنولوجيا وذلك التآزر بين الآلة والعنصر البشري، كما يقول. "القدرة على الفوز بالحرب بشكل حاسم تتطلّب أن تضع عدوّك كل يوم بوضع أسوأ من الوضع السابق"، هذا ما يقوله سارئيل، ما يدفعه، أيْ عدوّ إسرائيل، نحو الرغبة في وقف الحرب بأسرع وقت ممكن. ويفيد بأن لائحة الأهداف المقدّرة بعشرات الآلاف تلك قادرة على تحقيق ذلك.
في الأسابيع الأولى من الحرب، أعدّ برنامج لافندر لائحة قتل، تتضمن 37 ألف اسم فلسطيني، صنّفهم مسلّحينَ مفترضين، وحدّد مواقع منازلهم
برنامج "لافندر" Lavender، الذي كُشف عن استخدامه في حرب الإبادة على غزّة قبل أشهر ويبدو أنّ العمل جارٍ به إلى حدٍّ ما في لبنان؛ تطبيقًا لهذا الطرح. يستخدم هذا البرنامج الذكاء الاصطناعي، وصُمّم لتحديد المشتبه بهم في فصائل المقاومة (حركتي حماس والجهاد تحديدًا)، ومن ضمنهم القادة في الصفوف الأولى والعناصر. لقد جمع لافندر معلومات عن 2.3 مليون فلسطيني في غزّة هم سكّان القطاع، حلّلها، ثمّ وضع لكلّ شخص تصنيف من 1 إلى 100، قبل أن يعدّ قائمة للقتل.
خلال الأسابيع الأولى من الحرب، أعدّ البرنامج لائحة قتل، تتضمن 37 ألف اسم فلسطيني، صنّفهم مسلّحينَ مفترضين، وحدّد مواقع منازلهم. وبعدها صادق جيش الاحتلال، على لائحة "لافندر"، بلا أيّ فحص أو تدقيق في اختيار الأسماء، أو المعلومات الاستخبارية التي لُقّنت للآلة لإعداد لائحتها، بحسب ما يكشف تحقيق لمجلة (+972)[v]. كانت الآلة تصدر الأمر بتصفية الهدف خلال عشرين ثانية، والجنديّ على جبهة القتال ينفّذ فورًا؛ فعلٌ متعمّدٌ بهدف نزع أيّ حسّ إنساني محتمل في أمر القتل.
ويحمل لافندر هامش خطأ نسبته 10%. وكان الجيش الإسرائيلي يهاجم الأهداف بشكل ممنهج في فترة الليل، أي أثناء وجودهم في منازلهم مع عائلاتهم. ويستخدم "القنابل الغبيّة"، التي تهدم كلّ المبنى على رؤوس ساكنيه. يقول ضابط استخبارات إسرائيلي لمجلة (+972): "لا نريد أن نبذّر قنابل مكلفة على أشخاص غير مهمين، إنّها مكلفة جدًّا للدولة ولدينا نقصٌ في هذه القنابل!". وذهبت عمليات القتل الممنهج، إلى ما هو أبعد من لائحة لافندر، في ارتكاب جرائم الإبادة، فقد سمح الجيش الإسرائيلي بقتل ما بين 15 إلى 20 مدنيّاً خلال تصفية عنصر واحد لحركة حماس من غير صفوف القيادات على لائحة لافندر، وأذن عدّة مرّات بقتل أكثر من مائة مدني بغرض اغتيال قيادي رفيع واحد من "حماس"، بحسب ما ينقل تحقيق المجلّة، في خطوة غير مسبوقة في حروب إسرائيل وعملياتها العسكرية.
سمح الجيش الإسرائيلي بقتل ما بين 15 إلى 20 مدنيّاً خلال تصفية عنصر واحد لحماس من غير صفوف القيادات على لائحة لافندر
برنامج مماثل آخر مبني على الذكاء الاصطناعي يسمّى "ذا غوسبل" the gospel، كُشف عنه أيضًا في حرب غزّة؛ الفرق مع لافندر، أنّ "غوسبل" يعدّ لائحة أهداف بالمباني والبنى التحتية.
نعود إلى مشاريع قائد الوحدة السيبرانية، فإضافة إلى بنك الأهداف، يعرض في كتابه تصوّرًا لبناء حدود ذكية مسيّجة بالتقنيات الحديثة، حيث تتولّى المسيّرات والروبوتات أمر إدارتها ومراقبتها. تتولّى المنطقة الذكية مهمة تحديد المواقع وتنظيم أجهزة الاستشعارات ذات الصلة وتجهيز القنوات المعلوماتية.
طريقة عمل الآلة الذكية
لا بدّ من الإشارة هنا، إلى أنّه في إطار عمل الوحدة 8200، تجري منذ سنوات مهمّة تسمّى التنقيب mining داخل كمّ هائل من المعلومات للعثور على أمر ما، أو نمط متكرّر، أو غريب، ويُستخدم في هذه العملية الذكاء الاصطناعي، بحسب ما ينقل تحقيق في صحيفة فاينانشال تايمز نُشر قبل تسع سنوات، عن أستاذ الهندسة في جامعة تل أبيب، وأحد أبرز خبراء التنقيب والذكاء الاصطناعي Oded Maimon. وميمون، عمل مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وحصل على وسام من جهاز "الموساد" لخدماته في عام 2008.
في إطار عمل الوحدة 8200، تجري منذ سنوات مهمّة تسمّى التنقيب mining داخل كمّ هائل من المعلومات للعثور على أمر ما، أو نمط متكرّر، أو غريب، ويُستخدم في هذه العملية الذكاء الاصطناعي
لكن ما يطرحه سارئيل في كتابه، ينقل هذه العملية إلى مستوى آخر من التعقيد، والخطورة في آن معًا. فلنأخذ على سبيل المثال، حالة "الذئاب المنفردة" (عمليات المقاومة) التي تنظر إليها إسرائيل بوصفها واحدة من أبرز التهديدات التي تواجهها، والتي لم تستطع أجهزتها الأمنية والاستخبارية أن تتعامل معها أو تتوقع حصولها. الأفكار المطروحة في طريقة عمل هذه الآلة، أنّه سيجري بناء نموذج يُزوَّد بمعلومات ضخمة عن السكّان، تحرّكاتهم وأنشطتهم في الفضاءات الواقعية والافتراضية، وأمثلة سابقة، بعدها تبدأ الآلة عملية التوقع، لتعدّ لائحة بالإرهابيين المفترضين، تليها عمليات استباقية لهجمات مفترضة. بموجب هذا التفكير، تصبح كلّ الأنشطة الواقعية والافتراضية المؤيدة لأعداء إسرائيل مرتبطة بـ"إرهابي مفترض"، أمّا ما يخص تعريف "الأعداء" و"الأنشطة المعادية" فهذا يعتمد على ما لقّنوه للآلة قبل أن تبدأ بإنشاء لائحة المشتبه بهم بوصفهم إرهابيين افتراضيين. وهذا السيناريو مرعب، فهو يعني أننا أمام آلات ذكية تُحاكي العقل الإجرامي الإسرائيلي وتتغذّى منه.
في الفصل الأخير من الكتاب، يعرض سارئيل رؤيته لعام 2050، بأن ينتح هذا التآزر في الفريق البشري-الآلي جيشًا من الروبوتات في ساحات الحرب.
على أثر هذه القراءات الإسرائيلية في مشاريع الذكاء الاصطناعي، يتبادر إلينا السؤال: لماذا لم تتوقّع الوحدات الاستخبارية الإسرائيلية هجمات 7 أكتوبر؟ بحسب تسريبات إعلامية إسرائيلية، قدّمت الوحدة 8200 تقريراً استخباريّاً إلى مسؤولين عسكريين في سبتمبر/ أيلول 2023 حذّرت فيه من هجوم محتمل لحركة حماس، كاشفةً عن تدريبات تجريها قوات النخبة في الحركة لتنفيذ عملية خارج سياج الحصار، تتضمّن أسر وخطف ومهاجمة مواقع عسكرية إسرائيلية. طيب إذاً، لماذا تجاهلوا التحذيرات بشأن الهجمات التي ستُخاض بعدها حرب يتوعّدون بأنّها ستغيّر وجه المنطقة؟
لا نطرح في موضوعنا هنا مسألة تفوّق السلاح الإسرائيلي في مجالات البرّ والبحر والجوّ والسايبر، في حروبها غير المتكافئة ضدّ جماعات مقاومةٍ غير نظاميةٍ وشبه نظامية؛ فهذه المسألة محسومة لصالح إسرائيل، والحرب معها في هذه المجالات خاسرةٌ سلفاً، وفق منطق موازين القوى وحساباتها. مع هذا؛ ثلاث معارك، لن تنتصر فيها إسرائيل، ما دامت هي إسرائيل التي نعرف. المعركة الإنسانية التي خسرتها قبل أن تبدأ حرب الإبادة. المعركة الحقوقية، الخاسرة منذ نشأت نظامَ فصلٍ عنصريّاً، وقتلت السكّان الأصليين وهجّرت واحتلت أرضهم. ومعركة الأرض، مهما استشرس سلاحها الجوّي في القتل والقصف والتدمير، لن تستطيع حسم الحرب، ما دام جنودها لا يتقدّمون على الأرض، ويشتبكون مع أصحاب الأرض، ومن "المسافة صفر" كما يُصطلح على توصيفها؛ وليس بالاشتباك وحده، بل بالسيطرة أيضًا. هذا لم يتحقق لهم في غزّة، ولا يحصل في لبنان.