حربٌ على حافّة الهاوية
أمّا وقد انقشع غموض الأسابيع الأولى بعد عملية 7 أكتوبر، واستقرّت كلّ جهة في موقعها من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة وأهله، وأُعلنت الأهداف بشكل واضح يقطع الشكّ، فإننا ندخل في نفق حربٍ لن تنتهي غداً ولا بعد غدٍ ولا حتى بعد عام، وإن استُقطعت بهدن إنسانية، سيفرضها ضغط المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزّة، وتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة من الحليف الأميركي، ولن يفرضها ضغط عربيّ ما لا سمح الله.
بالنسبة لإسرائيل، الهدف معلنٌ واضح. المطلوب رأس حركة حماس، وحاكمٌ لما بعد "حماس"، وقطاع خالٍ من أيّ فعلٍ مقاوم. يؤدّي هذا الحاكم أو المفوّض دوره جيدًا في لعبة تنسيق أمني ويكون ذراعًا مطيعة للمحتلّ في ضرب كلّ مقاومة. وتريد أيضًا أن تكون الحدود مفتوحة أمامها، فتدخل قوّاتها وتخرج من القطاع وإليه بأريحية؛ فلا مقاومٌ يخدشها أو يلغّم خاصرته فينفجر بها. قطاعٌ يتذيّل الأرخبيل الذي صنعته في 75 عاماً؛ ولا ضير من جعله واجهة بحرية للمستوطنات، وساحة جديدة للعربدة، لكن الفرق أنّ المستوطنين هنا لن يجدوا قاطف زيتون ليرموه بالرصاص تحت شجرة العائلة، بل مزارعين بين حقول الفراولة والأزهار، وصيّادين على القوارب في عرض البحر.
تريد إسرائيل غزّة جديدة غير التي عرفناها واعتدناها. غزّة منزوعة الحيلة والسلاح والمقاومة، لا تغضب مقاومتها لاعتداءات على أسرى وتعدّ لتحريرهم، ولا تردّ على جرائم المستوطنين، وغير معنية بأيّ اقتحامات أو تقسيمات زمانية ومكانية للمسجد الأقصى. غزّة متحضّرة مطبّعة طيّعة، لا بربرية رامية للصواريخ. وهذا يعني، بالضرورة، تغيير وجه القطاع بالكامل، مع ما يتطلّبه ذلك من تدميرٍ شاملٍ وإمعانٍ في ارتكاب المجازر إلى حدّ الإبادة؛ نتوقّف عند النقطة الأخيرة لنقول، خذوا أسرارهم من صغارهم، وفي حالة إسرائيل من أنذالهم، فحديث الإبادة فيها مكرورٌ على لسان الصريح والخبيث.
على كلٍّ، فليهدأ قليلًا انفعالنا المدفوع بمشاهد الإبادة الجارية على الهواء تحت أنظارنا وأنظار النظام العالمي غير العادل أبداً، ولنعد إلى نقطة النظام...
بالنسبة لإسرائيل، الهدف معلنٌ واضح. المطلوب رأس حركة حماس، وحاكمٌ لما بعد "حماس"، وقطاع خالٍ من أيّ فعلٍ مقاوم
الطرف الثاني في الحرب، وهو حركة حماس؛ وقد فعلت ما فعلته في 7 أكتوبر، فإنّ المعركة صارت بالنسبة لها وجودية. مقاومة حتى الشهادة. ومَن يقاتل دفاعًا عن وجوده يشتدّ ساعده. يُغامر بحياته أكثر. قد يُقدم على ما هو أبعد من مباغتة العدوّ بهجوم من تحت الأرض وزرع عبوةٍ في دبابته هنا أو قصف جنوده بصاروخ محلّي هناك ثمّ الاختفاء والظهور مجدّدًا لخوض معركة شوارع معه. قد يُقدم على الانتحار بعدوّه، بما أنّه ميتٌ في كلّ الأحوال، ما يمنعه عن ذلك؟ فلا يُستبعد عندها أن نشهد عودة للعمليات الاستشهادية. ولن تكون غزّة عندها ساحتها الوحيدة. وما تشهده الضفة الغربية حاليًا؛ وإن لم تُسلّط عليه الأضواء بعدُ بسبب هوْل ما يجري في غزّة، مؤشّر على أنّ الأمور لن تكون هيّنة على إسرائيل في أيّ مكان من فلسطين، وعدوانها قد يولّد مَن هو أشرس في قتالها من حماس.
بالنسبة لحزب الله، ليس دخول الحرب الموسّعة هدفاً. أولوياته وأهدافه أعلنها أمينه العام، في خطابه بعد أربعة أسابيع من الحرب. خطابٌ رأى فيه بعضهم سياسة براغماتية تبتعد عن الانفعال والقرار اللحظي غير المدروس. لكنه يُقرأ أيضاً كخطاب انكفاء إلى الساحة اللبنانية، فساحة المعركة ضدّ إسرائيل هي جنوبي لبنان، ستتوسّع بقدر ما توسّع إسرائيل هجماتها؛ وهي صيغة اتفاق غير مُعلن بين الطرفين، لاحظناه منذ الأيّام الأولى للحرب، ولم يأتِ الخطاب إلا ليؤكّده، وليسمّي الأشياء بأسمائها. وجاءت أقوال لا نريد الحرب، ولم نكن نعلم ولم تعلم إيران أولاً بعملية 7 أكتوبر، لتؤكّد عدم الرغبة في توسيع الحرب. المعادلة أن يحارب الفلسطينيون على أرضهم، وحربُنا نحن على أرضنا، لكنّه ترك القوس مفتوحاً أمام احتمال توسّع الحرب. وفي هذا القوس المفتوح، نقطة ردع لإسرائيل تُحسَب له لا عليه، غير أنّها نقطة ردع عن لبنان، لا غزّة.
توسيع الحرب شرٌّ تجتمع عليه كذلك الولايات المتحدة وإيران معاً، وتحرصان على صدّه
توسيع الحرب شرٌّ تجتمع عليه كذلك الولايات المتحدة وإيران معاً، وتحرصان على صدّه. ولهذا، نرى التمسّك الإيراني بنفي العلم لأيّ استهداف للقواعد الأميركية في المنطقة من مليشياتها وحلفائها في العراق وسورية واليمن، وهو نفي تتلقّفه واشنطن بطيبة خاطر. والعاقل والمجنون يعلمان أنّ هؤلاء الحلفاء أبناء إيران وصنيعتها، لن يتحرّكوا إلّا بإشارة منها. الرسائل المتبادلة بين الطرفين عبر القصف، تتقاطع، إلى حدّ ما، مع ما هو جارٍ على الحدود اللبنانية. ضربة مقابل ضربة؛ والتزام بحدود المعركة.
كلّ جهة، إذاً، تخوض الحرب على حافّة الهاوية، وأيُّ خطوة غير محسوبة، قد ترمي المنطقة في حرب أوسع لن يخرج أيّ طرف منها رابحًا. وصحيحٌ، أنّ إيران ملتزمة بقواعد الاشتباك مع أميركا حالياً، لكنّ إثبات الجدّية؛ هي والمجموعات التابعة لها في المنطقة وفي مقدّمتهم حزب الله، في الذهاب إلى ما هو أبعد من الرشق الناعم للصواريخ، سيكون بمثابة الرادع لمنع الانزلاق نحو الهاوية. وفي موازين القوى الحالية، لن تقدر إيران على إلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة في أيّ حرب، لكنها قادرة على إيلامها وتكبيدها وإسرائيل أثماناً باهظة.