حركة الشباب في الصومال وغياب الاستراتيجية الشاملة
عادة ما تستفتح التحليلات المهتمة بالحديث عن الصومال بلازمة معتادة عندها، بالقول إن معضلات عدم الاستقرار في هذا البلد معقدة ومتشابكة، وأحيانا غير مفهومة، فمنذ ثلاثة عقود، تنتقل الصومال من مشكلة إلى أخرى بخفّة عجيبة. فما إن هدأت أصوات البنادق العشائرية، حتى دخل الجهاديون على حين غرّة من النافدة. وهي بطبيعة الحال جزء من الأعشاب الضارّة التي نبتت في الظروف التي أحدثها الخراب المادي والفكري لانهيار الدولة بسقوط نظام العسكر الدكتاتوري في مطلع تسعينيات القرن المنصرم.
مناسبة هذه المقدمة هو التناول الإعلامي المحلي والعالمي للحرب التي تعيشها هذه الأيام المناطق الجنوبية من الصومال مع حركة الشباب المجاهدين، وهي الفرع الأقوى في تنظيم القاعدة حاليًا، والمهدّد الأول والحقيقي لأمن الصومال والمنطقة. وتشهد انتفاضة عشائرية ضد حكمها في المناطق التي تسيطر عليها، وبدعم من الدولة المركزية. وتجري الهبّة الشعبية نفسها وبالزخم نفسه في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي القنوات الإخبارية والإعلام.
تعهّد الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود فور وصوله إلى الحكم في مايو/ أيار الماضي بتطهير البلاد من الحركة. وفي غضون الأشهر الثلاثة الأولى من حكمه، والتي أمضاها في الرحلات الخارجية وتعيينات الترضيات الزبائنية، ازداد معدّل هجمات الحركة بشكلٍ غير مسبوق في العاصمة مقديشو، وفي ولايات هيرشابيلي وجالمودوغ وجنوب الغرب، وقتلت الحركة وزراء حكوميين في تلك الولايات. أكثر من ذلك، توغّلت الحركة بشكل مفاجئ في الحدود الأثيوبية في يونيو/ حزيران، إلا أنها تلقّت هزيمة ساحقة من إدارة الإقليم الصومالي وبمشاركة شعب الإقليم، وجرى طرد عناصر الحركة من أراضي الإقليم في وقت قياسي. ألهم هذا سكّان الولايات الصومالية للتحرّر من الحركة الجاثمة على صدورهم منذ عقد وأكثر، وتشكّلت مليشيات عشائرية باسم "معاويسلي" في إقليم هيران، بدعم من الحكومة الصومالية الجديدة، وبدأت شنّ هجوم على مواقع مقاتلي الحركة، ثم امتدّت إلى جلجدود ومنطقة باي في الجنوب.
يتبنّى الرئيس الجديد والدوائر المقرّبة منه خطابًا يصوّر أن هذه الحرب ستكون نهاية الحركة، ويحشدون الدعم الدولي لها (الحرب)، مستفيدين من الهبّة الشعبية ضد الحركة. وهذا ما تحدّث به الرئيس حسن شيخ محمود في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في 22 الشهر الماضي (سبتمبر / أيلول)، حين قال إن إدارته "تضطلع بدور قيادي في مكافحة الإرهاب"، إلا أن الملاحظ على أرض الواقع هو غياب هذا الدور، على الأقل بالشكل المطلوب، حيث تقتصر استراتيجية الحكومة بتسليح العشائر.
تحوّلت المليشيات العشائرية إلى جزءٍ ممن باتوا يُعرفون بشركاء العملية السياسية
ليست "حركة الشباب" قوة عسكرية نظامية فقط، حتى تحشد لها قوات عشائرية، بل هي متغلغلة في مناحي الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية للبلاد، وتعمل على سدّ فراغات ضعف نظام الدولة، وتعمل، على سبيل المثال، على جمع الضرائب من كل مناطق الجنوب أكثر مما تفعله الحكومات المحلية الفيدرالية، إلى الحدّ الذي بلغت معه ميزانيتها في العام الحالي 288 مليون دولار بحسب مركز هيرال. وتفيد تقارير ميدانية بأن المزيد من الصوماليين باتوا يلجأون إلى محاكم الحركة لفضّ النزاعات، لتجنّب الإجراءات البيروقراطية الطويلة والرسوم الباهظة والمحسوبيات في بلدٍ يحتل باستمرار في أسفل مؤشّر تصنيفات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية منذ عام 2006، حتى إن محاكم الحركة تنقض أحيانًا قرارات محاكم الدولة الرسمية. يُضاف إلى ذلك كله أن الحركة تمتلك جهازًا استخباراتيًا قويًا لجمع المعلومات، يتّضح من دقة عمليات الاغتيالات التي تنفذها ضد مسؤولي الحكومة، ويعتقد بعضُهم أنها اخترقت أجهزة الحكومة الأمنية. وللتدليل على ذلك، يمكن التذكير بالاتهامات التي تبادلها قبل أشهر رئيس المخابرات السابق، فهد ياسين، ضد خلفه مهد صلاد، وقد تبادلا الاتهامات بامتلاك صلات وثيقة مع "الشباب"، وتواترت أخبارٌ تفيد بأن الإدارة الأميركية رفضت منح صلاد، مدير جهاز المخابرات الحالي تأشيرة دخول إلى أراضيها في ضمن الزيارة الأخيرة للرئيس محمود إلى واشنطن.
يقابل استراتيجية الحركة وآليات عملها القائمة على خبرةٍ راكمتها لعقدين، واختراقها الديناميات الاقتصادية والاجتماعية والعشائرية، بل وأجهزة الدولة المختلفة، تقابل ذلك كله هزالة استراتيجية الحكومة التي يجري التعبئة لها حاليا، والمتمثلة بتسليح عشائر بعينها، في بلدٍ لم يتعاف بعد بالكامل من الحرب الأهلية العشائرية، وهو ما يُنذر بعواقب وخيمة على استتباب الدولة الصومالية نفسها واحتكارها العنف المشروع. فالجميع يحفظ تاريخ اندلاع الحرب الأهلية، لكن لا أحد في مقدوره تحديد تاريخ انتهائها؛ لقد تحوّلت المليشيات الشعائرية إلى جزءٍ ممن باتوا يُعرفون بشركاء العملية السياسية، وأصبح أمراء الحرب السابقون متنفذّين في داخل الأجهزة الأمنية والسياسية للبلاد. وتسليح العشائر بهذه الطريقة التي تجري الآن تعيد عقارب الزمن إلى الوراء، إنها على الأقل تقلب توازنات القوى بين العشائر؛ خصوصا مع استفحال تسييس العشائر وانهماك المتنفذين بأسمائها في التنافسات السياسية حسب صيغة 4.5، وهي المعادلة المتّبعة لتوزيع المناصب السياسية على العشائر، ويقوم عليها النظام السياسي للبلاد.
ثمّة مشروعية للبحث عن الأسباب التي تدفع الحكومة إلى تبنّي هذه الاستراتيجية الخطيرة بتوزيع سلاح الدولة على العشائر. وينبغي طرح أسئلة من قبيل: لماذا لا يجري تجنيد هذه المليشيات للانضمام إلى الجيش الوطني، ووضعهم تحت قيادة منظّمة رسمية؟ ومن ثم أين الجيش الصومالي، الذي أنفق على بنائه وتدريبه 1.5 مليار دولار بدون نتائج على حد قول مسؤول أميركي؟ ولماذا لا تشمل الخطة الحالية لمحاربة الحركة قوات بعثة "أتمس" الإفريقية التي تبلغ 20 ألف جندي، والذين يقبعون في ثكناتهم، ويتلقون خمسة أضعاف راتب الجندي الصومالي؟
صرّح الرئيس الصومالي، بدون مواربة، أمام حشد شعبي، إما "أنتم معنا في الحرب أو مع العدو". وهي مقولةٌ تذكّر بمقولة بوش في عشية "11 سبتمبر" الأميركية
من يطرح هذه الأسئلة هذه الأيام أمام المعركة ضد "الشباب" يُتهم بالتواطؤ مع الإرهاب، فلا صوت يعلو على صوت المعركة. وتستميتُ النخب السياسية الصومالية الفاسدة والقابعة في فنادق مقديشو ونيروبي، والمدفوعون بحسابات عشائرية ضيقة، إلى جانب أصدقائهم الغربيين من مشعوذي استراتيجيات الحرب على الإرهاب، في الدفاع عن هذه المعركة، ويهاجمون بشراسة أي شخص يجرؤ على التدقيق في الرواية الرسمية وعواقبها الوخيمة. وقد صرّح الرئيس محمود، بدون مواربة، أمام حشد شعبي، إما "أنتم معنا في الحرب أو مع العدو". وهي مقولةٌ تذكّر بمقولة بوش في عشية "11 سبتمبر" الأميركية، لكن على الأقل تعني هنا محاولة مستميتة لرفض التدقيق في استراتيجية الحكومة. علاوة على أن هذا الخطاب من الخطورة بمكان، فهو يفتح الطريق أمام الناس العاديين إلى تصفية حساباتهم في الشوارع، ومن ثم تبادل الاتهام بالعلاقة مع الإرهاب.
ثمّة أمر بمثابة المسلّمة في نقاشٍ كهذا: إن حركة الشباب منظمة إجرامية استمرأت على هدر دماء الصوماليين. وتستقطب عناصر أجنبية في صفوفها وفي قيادتها، وتهدف القضاء على حلم الصوماليين بدولة مدنيةٍ تضمن لهم العيش الممكن كسائر البشر. وبدلا من ذلك، تخيّرهم إما بالقبول بمشروعهم الثيوقراطي، أو تستقدم بفكرة الجحيم إلى دنياهم عبر المفخّخات التي صارت خبرًا يوميا في حياة الصوماليين القاطنين في الجنوب. ونقرأ في أخبار الحرب الجارية هذه الأيام تعمّد الحركة تدمير مصادر المياه عبر تفجير آبار المياه وخزّانات المياه لتجويع المجتمعات الرعوية التي تعاني بالفعل من الجفاف، واستهدافها بالقصف أبراج شركات الاتصالات لعزل القرى عن بعضهم بعضا. الحركة مصمّمة، أكثر من أي وقت مضى، وبشكل منهجي، على تدمير البنى التحتية نوعا من العقاب الجماعي. وأي حربٍ ضدها فهي مشروعة، بل ضرورة ملحّة تقع على عاتق الرئيس حسن شيخ محمود وحكومته.
الاعتقاد الساذج أن "حركة الشباب" ستضمحل بأيدي مليشيات عشائرية وبدون وضع خطط واستراتيجيات شاملة هو مجرّد تفكير رغبوي
إلى ذلك، الاعتقاد الساذج أن "حركة الشباب" ستضمحل بأيدي مليشيات عشائرية وبدون وضع خطط واستراتيجيات شاملة تفكير رغبوي. ولتحقيق تقدّم على أرض الواقع، يجب تفعيل وحدات "دنب" المدربة أميركيًا، و"غورغور" المدرّبة تركيّاً في صفوف القتال، وقوات "أتميس" الأفريقية. أضف إلى هذا، أن على الحكومة نقل المعارك إلى معاقل الحركة الرئيسية، بدل مطاردة الحركة في قرى نائية لا تُمثل للحركة أهمية تُذكر. هذا إلى جانب محاربة الحركة أيديولوجياً، فلا يمكن التغلب على الجهاديين بدون أيديولوجيا مضادّة، فهم يستندون إلى فكر مستورد من خارج القرن الأفريقي. كما أنها تملأ فراغاتٍ في مجالات التعليم والعدالة والبطالة والتهميش لتجنيد مقاتلين جدد في صفوفها، فمعظم الملتحقين بصفوفها هم من العشائر المهمّشة، ويجدون الجهادية العدمية جوابًا عن المظالم المتراكمة المرتكبة ضدهم باسم الدولة وبيد أمراء الحرب. ويتطلب معالجة المسألة تطوير استراتيجية شاملة تتضمّن إيجاد حلول للشباب المهدورين، والمحرومين من الكرامة والتعليم ومستلزمات العيش الإنساني، وتعزيز مكافحة الفساد، وتطوير العدالة والمساءلة وسلطة القانون.
يتوفّر لدى الحكومة الفيدرالية كل الإمكانات اللازمة لتحقيق انتصار شامل ضد الحركة، لا بسبب التأييد الشعبي، وافتقاد الحركة أي حاضنة اجتماعية، بل كذلك بقدراتها العسكرية، ولا سيما مع حصول الرئيس حسن شيخ محمود في زيارته أخيرا تركيا على طائرات بدون طيار من نوع بيرقدار. ما سيغير وجه الحرب عسكريّا، كما حصل في صراعاتٍ أخرى في إثيوبيا وأرمينيا وليبيا. إلا أن الإشكالية العويصة تبقى افتقار حكومة محمود استراتيجية شاملة للتعامل مع الحركة، وما يجري حاليا لا يعدو عن كونه حربًا بين قوى غير متكافئة من ناحية التنظيم والتكتيكات والقدرة على البقاء في ساحة الحرب، وسيدفع ثمنه الفادح البدو الرعويون وحدهم، والذين لا تتوفّر فيهم ببساطة أساليب قتال الحركة، ويستحيل أن يحسموا حربا معقّدة مع حركة تعدّ الحركة الجهادية الأقوى والأكثر تنظيمًا في العالم. ويصبّ خروج السلاح من يد الدولة إلى العشائر مزيدا من الزيت على النار.