حرب غزّة: الموقف الهندي وتحقيق "التوازن الصحيح"
تُشير مواقف الهند الأممية، منذ بداية عملية طُوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، إلى وجود تحوّلات في المصطلحات الدبلوماسية المعتادة لدى نيودلهي تجاه القضية الفلسطينية. تزاوج الهند بين الإشارة إلى "مكافحة الإرهاب" والتأكيد على الموقف الهندي التقليدي من إقامة دولة فلسطينية مستقلّة. وقد برّرت هذه المزاوجة سياسة الهند، التي سمّتها مندوبة الهند في الأمم المتحدة روشيرا كامبوج بأنّها "التوازن الصحيح". وبناءً على ذلك، امتنعت الهند عن التصويت على مشروع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، الذي يدعو إلى "هدنة إنسانية فورية ودائمة ومستدامة تفضي إلى وقف الأعمال العدائية..". وعادت وصوّتت يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول 2023، لصالح مشروع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يطالب بوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية.
باتت الهند، كما تدلّ التصريحات الدبلوماسية الهندية، تفصل بين القضية الفلسطينية وما يحدُث في قطاع غزّة، بما فيها حركات المقاومة الفلسطينية، على أنّ التدقيق في المواقف الهندية، بعد عملية طُوفان الأقصى و"العدوان الإسرائيلي"، يوضّح انحيازا هنديا لصالح إسرائيل، ويكشف تغيّرات في المواقف الهندية التقليدية. فبعد خمسَة أيام (12 أكتوبر/ تشرين الأول 2023) من عملية طُوفان الأقصى وبدء الهجوم الإسرائيلي، أعلنت وزارة الشؤون الخارجية الهندية، في نصّ الإحاطة الإعلامية الأسبوعية للمتحدّث الرسمي شري أريندام باجشي، الموقف الدبلوماسي الهندي "تدعو الهند إلى حل تفاوضي لإقامة دولة فلسطين ذات سيادة ومستقلة وقابلة للحياة، داخل حدود آمنة ومعترف بها، في سلام إلى جانب إسرائيل". وفي الإحاطة الإعلامية الأسبوعية التالية للوزارة في 19 من الشهر ذاته، قال المتحدث "كانت هناك أيضاً قضيّة فلسطين (issue of Palestine)، وقد أكّدنا موقفنا المؤيد المفاوضات المباشرة من أجل التوصل إلى حلّ الدولتين"، في حين أكدت اللقاءات الدبلوماسية والتصريحات الرسمية والبيانات الخارجية الهندية على هذا الموقف في مناسبات عديدة في أعقاب الحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزّة.
الانتقال من الدعوة إلى تطبيق قرارات الأمم المتحدة إلى المفاوضات هو تساوق مع المواقف الإسرائيلية التي تريد الابتعاد عن المرجعيات الأممية
موقف الهند هذا أقلّ مما سبقه من الموقف المعتاد. قبل الحرب، كانت الهند تدعو إلى إقامة دولة فلسطين "على النحو المعتمد في قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ذات الصلة". قبل الحرب كان نهجها يقوم على "الدعوة" لدولة فلسطينية مع الإشارة إلى القرارات الأممية دون تحديدها. أما في الموقف الهندي بعد "عملية طُوفان الأقصى"، فلم تتم الإشارة إلى "قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة" مع تأييد المفاوضات "لحلّ الدولتين"، وهو موقفٌ دبلوماسيٌّ فضفاض، يتضمّن تأويلات سياسية ودبلوماسية، قد تستخدمها الهند مستقبلاً عند تبنّي مواقف قد تكون داعمة لإسرائيل.
هذا الانتقال من الدعوة إلى تطبيق قرارات الأمم المتحدة إلى المفاوضات هو تساوق مع المواقف الإسرائيلية التي تريد الابتعاد عن المرجعيات الأممية. وهذا الموقف يرافقه أيضاً امتناع/ رفض التحقيق الدولي في الجرائم الإسرائيلية. في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، امتنعت الهند عن التصويت على نصّ قرار "أعمال اللجنة الخاصة المعنيّة بالتحقيق في الممارسات الإسرائيلية التي تمسّ حقوق الإنسان الفلسطيني..."، الصادر عن اللجنة الرابعة التابعة للجمعية العامة المعنيّة بالمسائل السياسية وإنهاء الاستعمار في الأمم المتحدة. وفي الوقت ذاته، صوّتت الهند لصالح القرارات الأخرى الصادرة عن اللجنة، منها مشروع القرار المعني "بالمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية ..."، ومشروع القرار المعني بالدعم للاجئي فلسطين، الذي يشمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، ومشروع قرار "عمليات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى".
موقف الهند "الداعم" والمتمثل بالتصويت على القرارات الأممية لصالح القضية الفلسطينية أعلاه هو موقف حكومي منتظم، تمرّره الهند كل عام، كما أنهُ يدعم الموقف الدبلوماسي التقليدي للهند نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة، رغم عدم تحديد نيودلهي رؤيتها لحدود تلك الدولة، لكن ما قد يكون جديداً، إذا ما تكرّر، هو الدعوة إلى أن تكون الدولة نتيجة المفاوضات، وليس تطبيقاً للقرارات الأممية.
موقف الهند "الداعم" والمتمثل بالتصويت على القرارات الأممية لصالح القضية الفلسطينية موقف حكومي منتظم، تمرّره الهند كل عام
امتناع الهند عن التصويت على القرار المعني "بالتحقيق في الممارسات الإسرائيلية التي تمسّ حقوق الإنسان الفلسطيني"، سابق الذكر، لأنه يحتوي، بموجب شروطه من بين أمور أخرى، "الدعوة إلى رفع الحصار عن قطاع غزّة، وكذلك الوقف الكامل للاستخدام المفرط والعشوائي للقوة والعمليات العسكرية ضد السكان المدنيين"، موقف ليس جديدا من نيودلهي؛ ففي 2016، امتنعت الهند عن التصويت على قرار محكمة الجنايات الدولية بشأن البحث في جرائم حربٍ قد تكون إسرائيل ارتكبتها خلال عدوانها على غزّة منذ يونيو/ حزيران 2014.
ومن المرجّح أن تمتنع الهند عن التصويت على قرارات المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزّة؛ وقد أعلنت المحكمة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 أنها "تلقت طلبات دول للتحقيق في جرائم الحرب التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة والضفة الغربية".
رداً على الأسئلة في الإحاطة الإعلامية الأسبوعية لوزارة الخارجية الهندية (12 و19 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، أجاب المتحدث الرسمي باسم الوزارة باجشي: "بالنسبة لفلسطين، كما ذكرت، قلنا موقفنا... ما هو موقفنا الثابت منذ زمن طويل"، وتابع "أعتقد أن هناك التزاماً عالمياً باحترام القانون الإنساني الدولي. وهناك أيضاً مسؤولية عالمية لمكافحة خطر الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره". وبشأن موقف الهند من القرارات الأممية، أجاب: "أدنّا بشدّة الهجوم الإرهابي المروّع على إسرائيل. وعلى المجتمع الدولي أن يقف صفّاً واحداً في مكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره، ولا يمكن أن يكون هناك أي لبسٍ في هذا الشأن". وتُفسر عبارتا "هناك مسؤولية عالمية لمكافحة خطر الإرهاب"، و"على المجتمع الدولي أن يقف صفّاً واحداً في مكافحة الإرهاب"، سبب امتناع الهند عن التصويت على مشروع قرار "وقف إطلاق النار وهدنة إنسانية" في أكتوبر/ تشرين الأول 2023؛ فالمرجّح أنّ سببه خلو مشروع القرار من إدانة صريحة أو وصف "عملية طُوفان الأقصى بالهجمات الإرهابية". أما عبارة إن "هناك التزاماً عالمياً باحترام القانون الإنساني الدولي"، فقد تُفسر سبب تصويت الهند لصالح قرار الجمعية العامة "وقف إطلاق نار فوري إنساني" في ديسمبر/ كانون الأول 2023. وقد قالت مندوبة الهند الدائمة لدى الأمم المتحدة روشيرا كامبوج: "هناك أزمة إنسانية هائلة... وهناك مسألة مراقبة المجتمع الدولي، ويجب الالتزام بالقانون الدولي الإنساني في جميع الظروف"، وذكرت أن التحدّي يكمن في تحقيق "التوازن الصحيح".
من المرجّح أن تمتنع الهند عن التصويت على قرارات المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزّة
حقّقت الهند "التوازن الصحيح"، وفقاً لما أدلت به؛ نحو معارضتها "الإرهاب"، وبالتالي، الامتناع عن التصويت على قرار الجمعية العامة "وقف إطلاق النار وهدنة إنسانية". ومن ثم التأكيد على الالتزام بالقانون الإنساني الدولي، وبالتالي التصويت لصالح قرار الجمعية العامة "وقف إطلاق نار فوري إنساني". وترى الهند في موقف "الامتناع" أن وقف إطلاق النار ينبغي ألا يتوقف من أجل "هدنه إنسانية" في أعقاب "مكافحة خطر الإرهاب"؛ تأتي "الهدنة" جزءا من عملية سياسية، والتي اعتبرها بعضهم بالتزامن مع وقف إطلاق النار خطوة من شأنها أن تخدم عملية طُوفان الأقصى التي وصفتها الهند "بالهجمات الإرهابية". أما موقف الهند "التصويت لصالح" وقف إطلاق النار فجاء في إطار مراعاة القانون الإنساني الدولي؛ كمسؤولية تقع على المجتمع الدولي، من بينها الهند، في حين جاء ثقل القرار من استحضار المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة: "في مواجهة الخطر الجسيم لانهيار النظام الإنساني في غزّة"، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس.
يُظهر ما سبق أن نيودلهي حققت توازنا دبلوماسيا بين موقف "الامتناع" ومعارضتها "الإرهاب" وبين موقف "التصويت لصالح" القانون الإنساني الدولي ودعمها له، إلا أنه من الجدير ملاحظته أن الهند لم تحقّق "التوازن الصحيح" في "مسألة مراقبة المجتمع الدولي ويجب الالتزام بالقانون الدولي الإنساني"؛ إذ لم يشمل هذا "التوازن" تصويت الهند على القرارات الأممية نحو المسؤولية الدولية للمراقبة والتحقيق في "انتهاكات حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني"، وهذا انحيازٌ لأن الهند امتنعت عن التصويت على قرارات دولية تدعو إلى البحث والتحقيق في ممارسة جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزّة والضفة الغربية، كما سلف الذكر. غير أن مندوبة الهند في الأمم المتحدة أشارت، في وقت التصويت لصالح قرار "وقف إطلاق نار فوري إنساني"، إلى "الهجوم الإرهابي في إسرائيل"، وصوّتت الهند لصالح قرارات تعديل تُشير إلى "الهجمات الإرهابية"، والتي لم تعتمدها الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ من بينها اقترح تعديل الولايات المتحدة على مشروع القرار، داعية إلى إدراج فقرة "ترفض وتدين بشكل قاطع الهجمات الإرهابية الشنيعة التي نفذتها حركة حماس في إسرائيل اعتباراً من 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وإطلاق الرهائن..". وصوّتت الهند لصالح التعديل، فالقرارات الأممية التي امتنعت الهند عن التصويت عليها قد تُظهر تمسّك نيودلهي بموقفها، وهو وصف ما حدث في 7 أكتوبر "بالهجمات الإرهابية" والدعوة المتكرّرة إلى "مكافحة الإرهاب". أما القرارات الأممية التي صوّتت الهند "لصالحها" فقد تُظهر إصرار نيودلهي على الموقف الدبلوماسي التقليدي من القضية الفلسطينية. وقد يظهر هذا كله تبنّي الهند موقفا دبلوماسيا أمميا متوازنا، إلا أنهُ موقف انحياز سياسي "غير مُعلن" في سياسة الهند الخارجية.