حديث الانتخابات الصومالية
لم يتوقع أحد قبل العام الحالي الذي يغادرنا بعد أيام (2021) إلا قليل من النخبة السياسية أن سير الانتخابات في الصومال سيشهد مزيدا من التعقيدات والخلافات في الموسم الانتخابي الراهن، ولكن الجميع أدرك، فجأة ومع العدّ التنازلي للانتخابات، أن البلاد في مفترق طرق حقيقية، بسبب التأجيلات المتكرّرة للانتخابات وضعف نزاهة الإجراءات في ما تم اختياره من أعضاء وممثلين لمجلس الشعب، بغرفتيه العليا والسفلى، الأمر الذي أحدَث نوعا من عدم الثقة بين الحكومة والمعارضة من جهة وبين المعارضة والحكومة الاتحادية وحكومات الولايات من جهة ثانية.
تصرّ الإدارة الحالية المتمثلة بقيادة الرئيس محمد عبد الله فرماجو على إتمام الانتخابات بهيئتها الحالية، ومن دون أي اعتبار لما يردّده المعارضون من أن ثمة شوائب كثيرة في العملية الإجرائية للانتخابات، وأن مقاعد برلمانية تم انتخابها في ولايتي جلمدغ وجنوب عرب الصومال لم تراع فيها أدنى المعايير المتفق عليها، ما قد يؤدّي إلى أن تتحوّل الانتخابات برمتها صورية وغير شفافة. وقد بدت في الاتجاه ذاته الهواجس المشتركة للحكومة والمعارضة في استحواذ رؤساء حكومات الولايات في تحديد هوية أعضاء البرلمان المقبل، ما يخلّ في العملية الانتخابية شكلا ومضمونا، ويضيف إلى مشهد الانتخابات قتامة وضعفا في مشروعيتها، ثم عدم قبول نتائجها، وقد يمهد لحرب أهلية جديدة، أو على الأقل بروز أجسام جديدة تدّعي مشروعية موازية، إن لم يتم تدارك الموقف وتصحيح المسار.
لقد شهدت الصومال في الأعوام الأخيرة تطوّرا نسبيا في التداول السلمي للسلطة، فقد سلّم الرئيس السابق، حسن شيخ محمود، السلطة عام 2017، لخلفه محمد عبدالله فرماجو في إجراءات وصفت بأنها سلسة، بعد أن أقرّ بهزيمته أمام منافسه في انتخاباتٍ هي الأخرى لم تسلم من الشوائب، ولكنها كانت على الأقل محل تراضٍ بين الأطراف الفاعلة في الصومال، ونالت كذلك مباركة المجتمع الدولي والمانحين للصومال آنذاك. كذلك الحال، كان الأمر في صيف 2012، إذ أقام الرئيس شريف شيخ أحمد انتخابات مقبولة نسبيا، لم يحالفه الحظ في الفوز فيها، ولكنها أعطت فرصة كبيرة لمسار التحوّل الديمقراطي في الصومال، حين سلّم السلطة مباشرة لخلفه الرئيس حسن شيخ محمود، وفق إجراءات سلسة، وصفت حينها بالجريئة والشفافة. وقد وصفت كذلك، لما كان يملكه الرئيس شريف من حضور عسكري داخل القوات المسلحة، ولأنه لم يفكّر باللجوء إليها إطلاقا للتمديد لنفسه أو رفض النتائج.
بدلا من التنافس على أساس الأفكار والإيديولوجيات والبرامج، يكون التنافس علي معيار العشائرية، والقبائل التي تملك النفوذ الأكبر تُسند إليها المناصب العليا
أما هذا الموسم الحالي 2021، فقد تأرجحت العملية الإنتخابية ما بين التعثر والانعقاد، متخطية كل الأعراف والقواعد المتعارف عليها داخل المنظومة السياسية للمجتمع الصومالي. وقد حاول الرئيس الحالي تمديد ولايته سنتين إضافيتين، ما سبب خسائر فادحة، جرّاء المواجهات المسلحة التي حدثت بين القوات النظامية للدولة والقوات المدعومة من المعارضة، لينتهي المسار مرة أخرى بالعودة إلى المربع الأول، وهو الشروع في الانتخابات بصيغتها المتفق عليها محليا "معادلة المحاصصة العشائرية".
الجدير بالذكر هنا أن الصوماليين دأبوا منذ عام 2000 على أن يتقاسموا السلطة على أساس قاعدة قبلية مشهورة، تختصر بنظام أربعة فاصلة "4:5"، والتي ترمز إلى مجموعات القبائل الأربع الرئيسية والقبيلة الخامسة التي تختزل بنصف محموعة في نصيبها في الكعكة. وعلى الرغم من أنها ليست دستورية، إلا أنها مثّلت الآلية الوحيدة التي تكفل للقبائل التمثيل النسبي فى تقاسم السلطة، وثم تضمن لهم التراضي النسبي في تقاسم السلطة والثروة. ولهذه الصيغة، بطبيعة الحال، عيوب ومميزات، ومن مثالبها أنها تكرّس للقبليّة ومفهوم العشائرية المخالف لمبدأ الانتقال إلى الدولة الحديثة. وبدلا من التنافس على أساس الأفكار والإيديولوجيات والبرامج، يصبح التنافس علي معيار العشائرية، والقبائل التي تملك النفوذ الأكبر تُسند إليها المناصب العليا، كرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وأحيانا رئيس البرلمان، كما أن معظم الامتيازات، كتعيين الموظفين فى المناصب التنفيذية والمهمة، تميل إلى كفة القبائل القوية، وبها تضيع العدالة المنشودة بين مكونات المجتمع ومناطقه. لهذه المحاصصة العشائرية، على ما لها من علات كبيرة، ميزة، أنها هي الآلية الوحيدة التي جمعت الصوماليين على مشروع دولة تختلط فيه ملامح الدولة الحديثة بمعايير القبيلة وتسوياتها النابعة من ضرورات الواقع.
تأرجحت العملية الانتخابية ما بين التعثر والانعقاد، متخطية كل الأعراف والقواعد المتعارف عليها داخل المنظومة السياسية
ومهما تضاربت الأحوال في المشهد الانتخابي في الصومال حاليا، إلا أن عملياتها تسير ببطء، وتخيّم ظلال الشك في إجراءاتها وقواعدها المتبعة. وما بين إصرار الحكومة وإدارات الولايات في مواصلتها بهذه الطريقة المثيرة للجدل والرفض المتكرّر لنتائجها من المرشّحين المعارضين، تتجه الانتخابات الصومالية نحو سيناريوهات عديدة: الأول، الضغط على الحكومة وإدارات الولايات من المجتمع الدولي ومنتديات أحزاب المعارضة والقوى المتمثلة بزعماء العشائر وعناصر المجتمع المدني نحو تصحيح المسار، وإلغاء المقاعد المختلف عليها، وإعادة انتخابها بصورة شفّافة ونزيهة، مع مراعاة سلامة الإجراءات المتبعة في ما تبقى من اختيار مقاعد البرلمان في الغرفة السفلى. الثاني، الاستمرار في إجراء الانتخابات بهيئتها الحالية، الأمر الذي سيؤدّي إلى رفض المعارضة بالنتائج والشعور بالغبن داخل القبائل والعشائر، وربما تنزلق البلاد نحو فوضى قد لا تُحمد عقباها. الثالث، إتمام الانتخابات بطريقة فظّة من الإدارات الفدرالية، وإستحواذ كل إدارة على المقاعد البرلمانية في دائرتها من أجل الخوض في السباق الرئاسي، الأمر الذي سيحتم، مرة أخرى، احتداما مباشرا بين السلطات الاتحادية الطامحة للعودة إلي القصر مجدّدا والسلطات الولائية التي يسيل لعابها للفوز بأعلى منصب في الصومال (الرئاسة)، من خلال تزويرها الانتخابات وسلبها إرادة المجتمعات المحلية المتمثلة بسلطة القبائل، وهي الأخرى التي باتت تشعر بأن رؤساء الولايات يمسّون من كبريائها، ما يوجب على أبناء القبيلة الدفاع عن أنفسهم وعن حصتهم في السلطة التي تبدأ عادة باختيار ممثليهم في البرلمان، ثم حجز مقاعدهم في المناصب التنفيذية لاحقا.
الخلاصة، ليس التداول السلمي للسلطة أمرا هينا فمنطقة القرن الأفريقي كلها تعجّ بصراعات كان أساسها عدم إقامة الانتخابات في مواعيدها أو انتخابات قد أقيمت، ولكنها لم تحظ بالتوافق الكافي بين مكونات المجتمعات المحلية، وما يجري من صراع مرير في إثيوبيا خير مثال لذلك. ولذلك كانت ديناميكية الانتخابات في الصومال والتوافقات التي كانت تصاحبها دوما في الفترات السابقة صمام الأمان لنجاحها، ومن شأن أي خلل يصيب في ديناميكيتها والتسويات المطلوبة لضمان التراضي بين شركائها أن يؤثر سلبا على مستفبل البلاد والدولة معا.