حال الأميركان والعرب في رسالة من الحسين إلى ريغان
حُسمت الانتخابات الرئاسية الأميركية، أو تكاد. ومع اقتراب الرئيس المنتخب جو بايدن من الجلوس في المكتب البيضاوي، الذي سيرحل عنه، غير مأسوفٍ عليه، دونالد ترامب، تعود الأسئلة ذاتها إلى التداول، بشأن الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية، وما الذي سيغيّره بايدن في حال العرب وقضاياهم ومواقف زعمائهم، وهو ما أشار إليه مقال للكاتب "في انتظار بايدن" (صحيفة العربي الجديد، 23/9/2020)، أو في حال الأميركيين وسياستهم الشرق الأوسطية، وهي أسئلة وجدت أجوبتها منذ زمن، لكنها لم تجد عيوناً ترى وآذاناً تسمع، لتعتبر من تجاربها ودروسها. وفي هذا المطالعة، عودة 39 عاماً إلى الوراء، إلى السابع من أغسطس/ آب 1981، حين أرسل ملك الأردن الراحل، الحسين بن طلال، رسالة طويلة إلى الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، يفنّد فيها ما جاء في خطبه من ادّعاءات تاريخية باطلة، ومن تفسير مغلوط لقرارات الأمم المتحدة، وانحيازٍ كاملٍ إلى الرواية الصهيونية. ولعلّ من أهم ما جاء أيضاً في الرسالة، ذلك الألم الواضح من موقف بعض القادة العرب، المتّفق مع رواية ترامب – نتنياهو، وكأنه كان يتنبأ بعصر ترامب وصفقته، وتطبيع بعض العرب وتحالفهم مع العدو الصهيوني.
تعود هذه القصة إلى عام 2018، حين أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات "يوميات عدنان أبو عودة 1970-1988"، الوزير الأردني السابق، ومستشار الملك حسين ورئيس ديوانه الملكي. وقد لفت نظري، معدّاً لهذه اليوميات، وجود فراغات زمنية فيها لحوادث مهمة وقعت خلال هذه الفترة، كان فيها لأبو عودة دور ومشاركة، وعبثاً حاولنا البحث عنها في حينه. وقد أشرت إلى ذلك في مقدّمة الكتاب، وفي مراجعتي له في مجلة سياسات عربية (العدد 33، يوليو/ تموز 2018).
بعد نحو عام من صدور اليوميات، قرّر أبو عودة إخلاء الطابق الأول من منزله، الذي يضمّ مكتبته، وهناك عثرنا، بين ثنايا الأدراج والكتب والملفات، على كمٍّ هائلٍ من الأوراق والوثائق التي ملأت فراغ اليوميات السابق نشرها. بعد فرزها وتصنيفها وحفظها ضمن أرشيف "ذاكرة فلسطين"، في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، استقرّ الرأي على أن يُنتخب منها ما يتعلّق بالعلاقات الأردنية - الفلسطينية، وما يرتبط بها من مباحثات وتطوّرات عربية ودولية. وقد حالفنا الحظ بأن أفرجت الولايات المتحدة الأميركية عن وثائق تلك المرحلة، فلجأ الباحثون في المركز إلى مضاهاة بعض الوثائق ومطابقتها بالموجودة في الأراشيف الأميركية المُفرج عنها، لتستدرك هذه اليوميات الجديدة ما سبقها، وتحمل عنوان "الأرض والزمن والسلام"، مع بقاء الأوراق الأخرى متاحة للباحثين الجادّين في أرشيف المركز العربي. ومن ضمن هذه، كانت رسالة الملك حسين إلى الرئيس الأميركي رونالد ريغان.
قواسم مشتركة
بعد عبارات المجاملة التقليدية، يحاول الحسين أن يوجد قاسماً مشتركاً بين العرب وأميركا، مذكّراً بأنه "حفيد شريف مكة المكرمة، الحسين بن علي، الذي قاد الثورة العربية الكبرى عام 1916، فكان أول من سعى إلى تطبيق مبادئ الرئيس الأميركي توماس ويلسون، من أجل أن يكون للفلسطينيين الحقّ في تقرير مصيرهم". وهي المبادئ الأربعة عشر التي أعلنها ويلسون في خطابه أمام الكونغرس الأميركي، في الثامن من يناير/ كانون الثاني 1918. وتناولت الرسالة أفكاراً مهمة حول علنية المعاهدات، والديمقراطية، وحقّ تقرير المصير، "ولتحقيق مثل هذه الأهداف، قام العرب بثورتهم". لكن الملك يرى في ممارسات الولايات المتحدة الفعلية ما يتنافى مع هذه القواسم المشتركة، بل ويراها "تهدّد حقّ تقرير المصير للفلسطينيين"، وتهدّد أيضاً الهوية الحضارية للأمة التي تتعرّض لضغوط أميركية مختلفة؛ إذ، "حين يكون مثل هذا الحقّ، بل حين تكون هويتنا الحضارية كلها معرّضة لأنواعٍ جديدةٍ من الضغوط، أشدّ خطراً، أُقحمت فيها الولايات المتحدة الأميركية".
لذا، يرى الملك حسين أن ثمّة أزمة جديّة تلوح في الأفق؛ إذ "أُعيد رئيس وزراء إسرائيل، مناحيم بيغن، إلى السلطة، فوق موجة عداءٍ توضح - دون أيّ شك - أنّه يمثّل غالبية الإسرائيليين، روحاً وإرادة ورغبة"، معرّفاً الرئيس ريغان بأنّ مدينة غزّة المحتلّة تُعرف باسم غزّة هاشم، نسبةً إلى هاشم، الجدّ الأعلى للبيت الهاشمي، الذي دُفِن فيها في القرن الخامس الميلادي. ومع هذا كله، "فإنّ الجنرال أريئيل شارون، وهو من أسرةٍ بولندية مهاجرة إلى فلسطين، صرّح ذات مرّة بسخرية بأنّه يعتبرني دخيلاً على فلسطين وعلى الفلسطينيين! ومناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي المولود في بولندا أيضاً، أشار مؤخراً للأردن على [أنّه] "إسرائيل الشرقية"، مستعرضاً أحوال المنطقة؛ "فلبنان يُنتهك من جديد. والدمار الذي يفتك بأرواح اللبنانيين والفلسطينيين وممتلكاتهم ليس في حاجةٍ إلى مزيد من الإيضاح".
بعد أقل من عام على هذه الرسالة، اجتاحت إسرائيل لبنان، وأخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، وارتكبت مجزرة صبرا وشاتيلا
وعلى صعيد الأرض المحتلة "قامت أخيراً الحكومة الإسرائيلية باتخاذ إجراءاتٍ في المناطق العربية المحتلة، من شأنها أن تجعل من نهر الأردن حدوداً لإسرائيل"، ويضيف: "الزعامات السياسية ورؤساء البلديات في الضفة الغربية وفي قطاع غزة محرومون بموجب الأوامر الإسرائيلية حقَّ الاجتماع معاً. وإنّ البلديات والمؤسسات الأخرى والجمعيات، قد حُظر عليها تسلّم المعونة المالية التي دأب الأردن منذ سنة 1967 على تقديمها لها. ومنذ فترة وجيزة، منعت إسرائيل هذه الجهات أيضاً من تسلّم المعونة التي يقدّمها العالم العربي لها من طريق اللجنة الأردنية - الفلسطينية المشتركة، والمعيّنة لأداء مثل هذه المهمة. وإنّه لمن المؤسف حقاً أن أقول لكم إنّ هذه المعونة هي أقل كثيراً من حاجات التنمية لأهالي فلسطين الذين يعيشون تحت كابوس الاحتلال الإسرائيلي!".
بعد أقل من عام على هذه الرسالة، اجتاحت إسرائيل لبنان، وأخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، وارتكبت مجزرة صبرا وشاتيلا. واليوم، اكتملت استعداداتها لضمّ الأغوار، وفقاً لِما جاء في صفقة ترامب – نتنياهو، إذ يصبح نهر الأردن حدوداً لإسرائيل، واستكملت عزل الضفة عن قطاع غزة، وإلحاق الاقتصاد الفلسطيني بها.
جهل في التاريخ
يستعرض الملك الحسين في رسالته ما يعتقد أنها أخطاء كبيرة في فهم تاريخ المنطقة وحوادثها، معرباً عن عدم قبوله بأن "يقتبس قادة إسرائيل من خطب ريغان العديدة، المتعلّقة بالقضية الفلسطينية، ما يخدم أغراضهم"، من دون أن يتولّى التوضيح والتصويب؛ ففي ما يتعلّق بفلسطين، سبق أن قال ريغان: "منح الحلفاء سنة 1920 بريطانيا العظمى انتداباً على تلك المناطق المحتلّة (فلسطين)، وبعد سنتين، أقرّت هذا الانتداب عصبة الأمم". إلّا أنّ حقيقة الأمر أنّ أراضي العرب حُرّرت سنة 1918، ولم "تكن تلك الأراضي خاليةً من أصحابها، حتّى توزّعها قوات الحلفاء على من تختار"، وهي الأراضي الممتدة إلى الشرق، و"تشمل سورية الداخلية الواقعة شرقي نهر الأردن، وإلى شرقي سلسلة لبنان الشرقية الممتدة من العقبة إلى حلب". وإنّ "الفلسطينيين كانوا يُعرفون بهذا الاسم، ويستخدمون جوازات سفر فلسطينية، وكانوا مسيحيين وعبرانيين ومسلمين. إلّا أنّ هذا كله يبدو هذه الأيام أموراً غير واردةٍ وليست مهمة، بكل أسف!".
ويكشف الملك عن المعاهدات السرية التي وقّعها الحلفاء فيما بينهم، فيقول: "ينبئنا التاريخ بأنّ المطامح السياسية للروس وللإنكليز وللفرنسيين، وأهدافهم في التوسّع على حساب الدولة العثمانية، قد تجاوزت حدّ خيانتهم للعرب، خيانة إجرامية مجرّدة من الأخلاق. فقد تمّت مفاوضات سرية، بدأت سنة 1915، انتهت إلى عدد من الاتفاقات السرية، خلال السنوات الثلاث الأولى من الحرب العالمية الأولى، ولقد عُرفت لأول مرة معلومات عن وجود هذه الاتفاقات السرية، حين تمّ العثور عليها بين المحفوظات الإمبراطورية الروسية بعد قيام الثورة الروسية. فهل علينا، يا سيادة الرئيس، أن نعتقد، بعد هذا العرض المجمل المتكامل، بأنّ حكومة الولايات المتحدة الأميركية اليوم تأخذ بهذه السياسات نفسها، على الأقل في ما يتعلّق بالعالم العربي؟"، وهو ما يخالف تماماً مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون.
تضمنت خطابات ريغان وتصريحاته جهلاً بالتاريخ والجغرافيا، وبالقرارات الدولية المتعلّقة بالقضية الفلسطينية
يردّ الحسين على ادّعاء ريغان أنه "في عام 1946، أوجدت بريطانيا بمفردها، وبموجب قطعةٍ من الورق، مملكة الأردن"، فيقول: "إنّ قطعة الورق الوحيدة المهمة هنا ليست إعلان استقلال الأردن عن الانتداب البريطاني، بل قرار التقسيم سنة 1947 الذي يبيّن قانونياً الحدود ما بين إسرائيل وفلسطين، هذا مع كون ذلك القرار مجحفاً من وجهة النظر العربية". وفي الخطاب المعنيّ نفسه، يشير ريغان إلى اللاجئين الفلسطينيين زاعماً أنهم "اختاروا أن يهربوا من إسرائيل، خشية أن يُنفّذ العرب تهديداتهم بالموت للإسرائيليين"، وأنّهم بصفتهم عرباً سيُذبحون، بحجّة أنّهم خونة إذا ما اختاروا البقاء في إسرائيل. فيردّ عليه الحسين بأنه "لواثق من أنّكم كنتم ستقدّرون الحقائق تقديراً أقرب إلى الواقع والحقيقة، لو سمعتم عن الفظائع التي تعرّض لها الفلسطينيون على يد الإسرائيليين، كمذبحة دير ياسين. إنّ الأعمال الوحشيّة التي يصعب تصديق مدى فظاعتها، والرعب الذي مارسه الإسرائيليون بقيادة شخصياتٍ بارزة، مثل مناحيم بيغن نفسه، ضدّ الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، هذه الأفعال الوحشية المعروفة لدى الجميع، وضّحت أنّ الخوف من الإسرائيليين كان هو السبب في أوّل شتاتٍ فلسطيني. يُضاف إلى ذلك المخاطر السكانية (الديموغرافية) المستمرّة التي تفرضها إسرائيل، والمتمثّلة في مزيدٍ من تهجير الفلسطينيين وطردهم، مما أوضحَته خطّة المنظمة الصهيونية العالمية عند معالجتها للمستقبل القريب للضفة الغربية ولقطاع غزّة". مستطرداً، إن "السّؤال هنا، هل سيمارَس حقّ تقرير المصير فقط حين يُختزل الفلسطينيون فيصبحون أقلية في وطنهم؟".
جهل في الحاضر
تضمنت خطابات الرئيس ريغان وتصريحاته جهلاً بالتاريخ والجغرافيا، وبالقرارات الدولية المتعلّقة بالقضية الفلسطينية؛ فهو يزعم أن "إسرائيل لم تحاول قط أن تضمّ الضفة الغربية"، و"إنّ قراراً آخر من قرارات الأمم المتحدة، هو قرار 242، صدر عام 1967، يبيّن بكل صراحة أنّ اليهود والعرب الفلسطينيين لهم الحقّ في الاستيطان هناك، إلى أن تتفق كل من إسرائيل والأردن فيما بينهما على حدودٍ آمنة ومعترف بها"، مانحاً بذلك إسرائيل الحقّ في استيطان الأرض المحتلة. من سوء حظ ريغان أن الملك كان "شخصياً أحد المفاوضين على قرار مجلس الأمن 242، وكان الموضوع يتناول أرضاً أردنية وقعت تحت الاحتلال، أي، أراضي دولة مستقلة ذات سيادة، وعضو في الأمم المتحدة، احتلتها قوة أجنبية". وهو القرار "الذي ينصّ في ديباجته على عدم جواز ضمّ أراضي الغير من طريق القوة". لذلك، لم يستطع الحسين أن يرى "كيف يمكن هذا القرار أن يتضمّن - ناهيك عن أن يبيّن بكل صراحة – حقّ اليهود والعرب الفلسطينيين بالاستيطان هناك، إلى أن يتم الاتفاق ما بين الأردن وإسرائيل على حدود آمنةٍ معترفٍ بها".
لم تختلف كثيراً مواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة من موضوع الاستيطان الصهيوني في الأرض المحتلة
يوضّح الملك الحسين أنه على الرغم من الجهد الذي بُذل لتنفيذ قرار مجلس الأمن 242، إلّا أنه والقرار 338 "قد أخفقا في معالجة جوهر الموضوع، أي حقوق الشعب الفلسطيني على التراب الفلسطيني، وأصبح واضحاً أنّ من غير الممكن حلّ القضية الفلسطينية دون المشاركة الكاملة للفلسطينيين. وهكذا أصبح جلياً أنّ هذه القرارات كانت لا تفي بالغرض المنشود". كذلك يعارض الملك ريغان في موقفه من القدس، ويؤكد أنّ "القدس العربية هي جزء لا يتجزأ من أراضي الضفة الغربية التي احتُلت في حزيران/ يونيو سنة 1967. وإنّ موضوعها يشمل مبدأ حقّ السيادة، وكذلك الحقوق الدينية والبلدية". أما النتيجة التي يصل إليها الحسين، فتتلخّص بأنه بعد أن كانت إسرائيل تسيطر على 70% من الأراضي الفلسطينية، قبل حرب عام 1967، أصبحت الآن تحتل فلسطين بأكملها؛ فإن "المناطق المحتلّة في الوقت الحاضر تمثّل فراغاً في ما يتّصل بالسيادة؛ هذا الفراغ الذي لا يمكن أن يملأه إلّا الفلسطينيون أنفسهم على ترابهم المستقل". ولعلّ هذا الخطاب كان من الأسباب التي حملت ريغان على أن يضمّن مبادرته للسلام مفاوضات بين الأردن والفلسطينيين وإسرائيل، مع وضعه شروطاً لهوية الفلسطيني الذي يشارك، ومن سيختاره، وهو الموضوع الذي شغل الجانبين، الأردني والفلسطيني، أعواماً عدة، في محاولةٍ لم تنجح للتوفيق بين الشروط الأميركية، أو تعديلها والالتفاف عليها، لضمان تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية. وهو ما أدّى، لاحقاً، وضمن ظروفٍ أخرى، من ضمنها الانتفاضة الفلسطينية الأولى، إلى فشل الاتفاق الأردني - الفلسطيني وإعلان فكّ الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية.
لم تقبل الولايات المتحدة يوماً بموضوع تفكيك المستوطنات، وأصرّت على إحالتها إلى المفاوضات النهائية
لم تختلف كثيراً مواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة من موضوع الاستيطان الصهيوني في الأرض المحتلة، واستخدمت لذلك ذرائع شتى، منها التفسير الخاطئ لقرار 242، ومنها اعتبار أن هذا الموضوع يخضع للمفاوضات النهائية، أو القبول بالذرائع الأمنية للاستيطان، أو الاستناد إلى الرواية التوراتية (كما فعل دونالد ترامب) ومنذ حرب عام 1967، استخدمت دوماً حقّ النقض (الفيتو) أمام أي قرارٍ لمجلس الأمن يدين الاستيطان الصهيوني، أو يدعو إلى وقفه. ولم تشذّ عن ذلك إلا في الأيام الأخيرة من ولاية باراك أوباما، حين امتنعت عن التصويت، وسمحت بامتناعها أن يمرّ قرار ضدّ الاستيطان بأغلبية 14 صوتاً.
في المباحثات حول السلام، أو في المبادرات المختلفة، لم تقبل الولايات المتحدة الأميركية يوماً بموضوع تفكيك المستوطنات، وأصرّت على إحالتها على المفاوضات النهائية، وقدّمت وعوداً ( لم ترَ النور) بالضغط على إسرائيل لتجميد الاستيطان، إذا بدأت مفاوضات جدّية، وهو الوعد الذي أمل الملك حسين أن يحصل عليه من ريغان بعد مشروعه الذي حمل اسمه. وقد وضعت الولايات المتحدة شرطاً للضغط على إسرائيل لتجميد الاستيطان، خلال فترة المفاوضات، بتشكيل وفد أردني - فلسطيني مشترك للمفاوضات، على أن لا يتضمّن الاتفاق الأردني - الفلسطيني إشارات مباشرة إلى دولة فلسطينية مستقلة، فضلاً عن أن هذا التجميد الذي لم يحدث قط، قد تعرّض لمباحثات حول ما عُرف بـ"النمو الطبيعي للمستوطنات"، وغيرها من المبرّرات.
الولايات المتحدة تمسّكت دوماً بالمقترحات الصهيونية التي تنصّ على حكم ذاتي محدود للفلسطينيين، حتى لو اختلفت مسمّياته الحديثة
لم ينفّذ تجميد المستوطنات قط، ولم يُشر إليه، حتى في اتفاق أوسلو الذي تضمّن بنداً غامضاً حول عدم إجراء تغييراتٍ من شأنها أن تؤثّر بمفاوضات الحل النهائي. وكانت نتيجة السياسات الأميركية – الصهيونية أن وصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى نحو 800 ألف مستوطن. أما حجم الأرض الفعلية التي يسيطر عليها الاحتلال، فيزيد على 70% من مساحة الضفة، حسب تقرير حديث لمؤسسة "بتسيلم"، وتضمّ، إضافة إلى المستوطنات، الطرق المؤدّية إليها والمناطق العسكرية والمحميات الطبيعية. وقد تضمّنت "صفقة القرن" ضمّ كل المستوطنات إلى إسرائيل، وتقسيم الضفة الغربية إلى معازل.
حول الحكم الذاتي للفلسطينيين
يرجع هذا الموقف إلى أن الولايات المتحدة تمسّكت دوماً بالمقترحات الصهيونية التي تنصّ على حكم ذاتي محدود للفلسطينيين، حتى لو اختلفت مسمّياته الحديثة، واعتباره دولة أو أكثر أو أقل، في ظلّ سيطرة صهيونية دائمة. وفي هذا المجال، يردّ الحسين على قول ريغان بأن "علينا أن نتذكّر أنّ حكماً عربياً فلسطينياً ذاتياً للضفة الغربية ولقطاع غزّة كان اقتراحاً إسرائيلياً، وهذا تنازل أساسي من جانب إسرائيل لمصلحة التقدّم نحو السلام"، ليوضّح له: "هناك فرقٌ أساسي بين تقرير مصيرٍ حرٍّ للفلسطينيين، في حالة انسحاب قوّة الاحتلال العسكرية، وبين حكمٍ ذاتي يفرضه المحتلّ".
ويعرب الملك حسين عن خشيته "من المدى الذي أصبحت فيه الأفكار الصهيونية تُقبل على أنّها حقائق"، ويورد مثلاً قيام رابطة الأميركيين العرب بعملية مسح وتقييم لطريقة عرض الإسلام وشؤون العالم العربي في الكتب المدرسية في الولايات المتحدة، وقد أظهرت هذه الدراسة (نُشرت في 26/1/1981) أنّ هذه الكتب "لم تكتفِ بأن تُبرز النزاع العربي الإسرائيلي على أساس نمطٍ ثابتٍ؛ وهو صورة الإسرائيليين الطيبين والعرب السيئين. وهذا وحده أمر مؤلم، ولكنّ الأكثر إيلاماً لنا جميعاً، ما بيّنته هذه الدراسة من أنّ الحضارة العربية والدين الإسلامي يُعرضان عرضاً فيه تحيّز وإهانة. وإذا ما تلقّن الجيل الأميركي الشاب في أهم سنوات تكوينه الأولى احتقار نسبة كبيرة من سكان العالم، بحجة أنّهم أعداء، فماذا يبقى لدينا من أمل في السلام؟ ويبدو أنّ الحركة الصهيونية قد قطعت أشواطاً واسعةً منذ أن وقف الرئيس الأميركي الراحل دوايت آيزنهاور، سنة 1956، وقفة شجاعةٍ أمام الاعتداء الثلاثي، الإسرائيلي – الفرنسي - البريطاني، على الأمة العربية".
يعرب الملك في رسالته عن خشيته "من المدى الذي أصبحت فيه الأفكار الصهيونية تُقبل على أنّها حقائق"
يتساءل الحسين: "هل ستكون هذه الحملة الإسرائيلية الماكرة الموبوءة التي تهدف إلى غزو عقول الشعب الأميركي سبباً في منع الولايات المتحدة، في المستقبل، من ممارسة دورها التقليدي المتّسم بالإنصاف؟"، محذّراً إياه من خطر حقيقي؛ "أن يُفسد وعي بلادك على ذاتها وشعورها بنفسها، وأن تفقد القدرة على أن تتصرف حسب ما تمليه مصالحها، ووفق المبادئ والمُثل التي قامت عليها، لتصبح أعظم دولةٍ في عصرنا الحاضر". ويؤكّد الحسين: "إنّ شرف العرب والمسلمين وكرامتهم والدفاع عن حقوقهم، هي أغلى علينا من الحياة نفسها. ولقد ورثنا تراثاً عن أجيال من المسلمين والعرب خلال تاريخنا العربي الإسلامي المشترك، وإنّ قائد الثورة العربية الكبرى الذي تآمر عليه الحلفاء وبعض العرب، اختار أن يموت في المنفى على أن يتنازل عن القدس التي ضمّت رفاته بعد وفاته. والمدينة المقدّسة لها أهميتها لدى جميع أتباع الديانات التوحيدية الكبرى الثلاث، وليس هناك من قوة على وجه الأرض تستطيع أن تقلّص القدس لتجعل منها مجرد عاصمة سياسية لإسرائيل!".
ثمّة مرارة واضحة في رسالة الملك من بعض من هم "في مناصب رفيعة في عالمنا العربي، وربما كان بعضهم يعيشون ليومهم مقتنعين بالتأكيدات المعطاة لهم منكم، لحمايتهم وتأييدهم. وربما كان آخرون يجيدون المساومة من أجل البقاء، إلّا أنّني أعتقد أنّهم جميعاً على خطأٍ فادحٍ، ولن تُتاح لهم الفرص ليحافظوا على وجودهم أمام حكم الشعب والتاريخ العربي عليهم". مستدركاً، أنّ العالم يتوقع من الشرق الأوسط أن يقدّم "قياداتٍ مسؤولة لا تتزحزح عن التزامها عدالة القضية العربية وطموحات شعبنا". متسائلاً: هل يعقل أن يُطلب من العرب "أن يقبلوا الولايات المتحدة الأميركية كصديق معتمد لهم، ناهيك عن قبول العرب لها على أنّها القاضي، أو الحكم الوحيد، من أجل تحقيق سلامٍ عادلٍ ودائمٍ في الشرق الأوسط". "ما الذي اقترفه العرب بحقّ الشعب الأميركي، ليستحقوا كل هذا النكران لحقوقهم، وليواجَهوا بمثل هذا العداء المستمر؟". ومحذراً من أنّنا نقترب من نقطة فاصلة على مفترق الطّرق، "وإذا ما وقعت الطّامة الكبرى، فإنّها لا شك ستكتسح كلّ ما في طريقها في هذه المنطقة، وربما في العالم بأكمله. عاجلاً أو آجلاً، لا بد للحقّ من أن ينتصر. وإنّ العرب لا محالة سيستردّون حقوقهم".
لا تشكل الرسالة قطعة من التاريخ فحسب، بل لعلّها تمتد إلى حاضرنا، لتصف حالنا نحن والأميركان، وحال بعض حكام العرب الذين يساومون على بقائهم، معتمدين على الحماية الأميركية واتفاقات "أبراهام". هو حالنا الممتد من زمن ريغان، وصولاً إلى زمن ترامب وبايدن. ولعلّ في ذلك عبرة لمن يعتبر.