حالة السيسي المستعصية
ذات مساء، كان عبد الفتاح السيسي، بمحض المصادفة، يمسك ريموت التلفزيون، يتنقل بين القنوات، في حالة من الملل. وفجأًة، وبالمصادفة البحتة أيضًا، توقف الريموت عند برنامج على فضائية مملوكة لمستثمر سعودي، يقدّمه المذيع عمرو أديب، الذي خبطه تركي آل الشيخ على ظهره، بعد أن وقّع معه عقدًا، وهو يصيح "اللي بعده". وبالمصادفة، أيضًا، وجد السيسي أنه من الممكن أن يخرج من حالة الملل بأن يمسك بالموبايل ويجري اتصالًا، عفويًا ومفاجئًا، بالبرنامج، مثل أي مواطن لديه مشكلة أو وجهة نظر في أي شيء، ويريد أن يتكلم فيها.
ومن حسن حظ السيسي أن الخط لم يكن مشغولًا، فتمت المكالمة بنجاح، والتقطها المذيع، بمنتهى المصادفة، تمامًا كما حدث في أربع مرات سابقة، كلها تمت بالمصادفة، فتدفق السيسي بالكلام العفوي، فيما تهلّلت أسارير المذيع بمداخلة صديق البرنامج المخلص له.
وبما أن المداخلة كانت عشوائية تمامًا، من دون أي تخطيط من المتصل، أو توقّع من المتلقي، فقد دار الحوار حول العشوائيات التي يحاربها السيسي الذي صار حاكمًا على مصر بالمصادفة، من دون تخطيط منه ولا من أية جهة أخرى، فأمطرت السماء، على حين غرّة، نحو خمسمائة مليار جنيه، سقطت في حجره، بالمصادفة، فصاح "هذا من فضل ربي"، ثم انطلق مثل البلدوزر يهدم كل ما في طريقه من مناطق تاريخية، ويزرع الكباري في الشرفات، وفوق أسطح ما تبقى من بنايات قائمة.
وبما أن كل شيء جاء عفويًا، فإن المصادفة أيضًا هي التي دفعت السيسي إلى استدعاء شبح 25 يناير المخيف، ليشكو للمذيع من أن "الثورة مستمرة"، أو "الحالة" وفق تعبيره، لا تزال تحدث تأثيرًا حتى الآن، وهو الأمر الذي يعرقل جهوده الجبارة في هدم مصر القديمة، وإقامة مصر جديدة ليس فيها من ملامح مصر الأصيلة شيء.
عشر سنوات من حرب السيسي على ما يسميها مرّة "الحالة الثورية"، ومرّات يستنكف وصفها على النحو الصحيح، فيستخدم تعبيرات، مثل "اللي حصل قبل كده" أو "الأحداث"، وأحيانًا لا تسعفه اللياقة واللباقة، فينسكب ما يخبئه في صدره وينعتها صراحة بالمؤامرة.
عشر سنوات من الاستخدام المفرط لأشد الأسلحة فتكًا، ليست كافية ليتخلّص السيسي من الحالة التي تتلبسه، كلما عبر بخياله طيف ثورة يناير، فيبقى حبيس كراهيته وخوفه منها، ويستخدمها شمّاعة يعلق عليها طغيانه واستبداده الوحشي ضد الإنسان المصري، ويبرّر بها تعثّره وفشله في الوصول إلى حالةٍ مجتمعيةٍ محترمة، يتحرّر فيها الوطن والمواطن من الهواجس الأمنية وهلوسات الحديث عن المؤامرات الكونية، وهستيريا التفوّق والتميز، من دون أن تكون هناك علامة واحدة على ذلك.
كان السيسي، في مداخلة المصادفة مع مذيع المصادفة، يحاول أن يقدّم وجهًا إنسانيًا لشخص لا ينام من أجل رفاهة المواطن وسعادته وحريته وأمنه، بعد لحظاتٍ من الإفراج عن الصحافي في شبكة الجزيرة محمود حسين، بعد أربع سنوات من الحبس، بلا تهمة، سوى أنه صحافي في محطةٍ ليست مثل المحطة التي تستقبل مكالماته على مدار سنوات، بمحض المصادفة.
سأله المذيع، الذي وضعته الأقدار في طريق السيسي كل هذه السنوات، بالمصادفة، في كل شيء من الأشياء التي يحبها السيسي. وبالطبع لم يكن ممكنًا أن يسأله السؤال الأهم في تلك اللحظة: لماذا أطلقت سراح صحافي "الجزيرة"، وحده، من بين 27 صحافيًا مصريًا في سجونك؟ لماذا لم تمرّر القرار الصفيق بإعادة الحرية المسروقة من مواطن واحد بوضعه ضمن حزمة قراراتٍ مماثلةٍ يسترد بها مظلومون آخرون حرياتهم؟
كان من الممكن أن يسأله عمرو أديب عن مصير زملاء وزميلات من المحبوسين في ظروف غير آدمية، بعضهم ينهشه المرض، من دون أن يسمح له بالعلاج، كما هو الحال مع هشام فؤاد وعامر عبد المنعم، وآخرين تنهشهم فظاعات السجانين، مثلما يجري مع الصحافية سلافة مجدي، الواقعة تحت انتهاكات عديدة، وثّقتها في بلاغات إلى من يهمه الأمر.
كان من الجدير بالمذيع أن يسأله: ما خطورة سلافة مجدي أو حسن القباني أو خالد داود أو إسراء عبد الفتاح أو هشام فؤاد أو عامر عبد المنعم، على عمليات التنمية والبناء التي يمنّ بها السيسي على البلاد والعباد.
يغرق السيسي الناس في محيط من أرقام ووعود الرخاء والرغد، متصوّرًا أن ملايين الوحدات السكنية ومليارات الجنيهات تهبط من السماء، من فضل الله، يمكن أن تحجب حقيقة وجود عشرات آلاف من الأبرياء المسجونين ظلمًا، وآلاف من المقتولين تعذيبًا واغتيالًا، ومليارات الجنيهات المسروقة غصبًا وعدوانًا من أصحابها، مستثمرين ومواطنين.
كان من الممكن أن يسأله المذيع إذا كنت تختال على الناس بأنك تملك خزائن الأرض، من فضل الله، لكي تهدم وتبني، مثل مقاولٍ محترف، فلماذا لا تفعل مثل الدول المحترمة، فلا تبيع لقاحات كورونا للناس، وتعطيها للشعب مجانًا؟
كان من الواجب، مهنيًا وإنسانيًا، طرح أسئلةٍ عديدةٍ مهمة، لكنها المصادفة المباغتة التي أربكت الطرفين معًا.