جيل فلسطيني يقود استراتيجية إعلامية جديدة
من أهم مخرجات أحداث حي الشيخ جرّاح في القدس المحتلة، والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أخيراً، ظهور جيل فلسطيني جديد، غير تقليدي، قاد المعركة الإعلامية مع الاحتلال محليًا ودوليًا، وأرسى الطريق نحو استراتيجية إعلامية جديدة، تمتاز بجرأة الخطاب والطرح، وتسمي الأمور بمسمياتها من دون حذر في استخدام المصطلحات المتعلقة بالصراع. ونجح هذا الجيل في إعادة الروح للقضية الفلسطينية، ووضعها مجدّدًا على أجندة الأحداث الدولية، بعدما أصابها الجمود سنواتٍ عديدة، وحلول قضايا إقليمية مكانها، مثل الملف النووي الإيراني والثورات العربية واتفاقيات التطبيع بين إسرائيل ودول عربية.
تعود بدايات تشكل هذه الاستراتيجية إلى أحداث الشيخ جرّاح المهدّد بالتطهير العرقي لمصلحة المستوطنين. بدأ عشرات الشبان، معظمهم في العشرينيات من العمر، بالاحتشاد في خيم تضامن مع أبناء الحي، لكنهم واجهوا غياب التغطيات الإعلامية لما يجري على أرض الواقع من اعتداءاتٍ من المستوطنين والشرطة الإسرائيلية بحق أهالي الحي والمتضامنين معهم، والأنكى من ذلك، غياب أي موقف فلسطيني رسمي من الحدث. من هنا، أخذ هذا الجيل زمام المبادرة، واجتاح مواقع التواصل الرقمي بكلّ ما أوتي من قوة، بنشر الصور والبث المباشر من قلب الحدث، حتى أصبحت تلك المواد الإعلامية على ملايين من الأجهزة الرقمية في العالم. وهكذا، أجبر هذا الجيل كبرى المؤسسات الإعلامية الغربية، الداعمة لإسرائيل، على تناول قضية الحي، واستضافة عدد لا بأس به من النشطاء لنقل روايتهم لأحداث.
أشارت استطلاعات للرأي إلى تراجع صورة إسرائيل، ما يمثل دليلًا على نجاح الفلسطينيين في قلب موازين المعركة
مثّلَ الشقيقان التوأم محمد ومنى الكرد، من حي الشيخ جرّاح، طليعة هذا الجيل من المؤثرين في المجتمع الفلسطيني عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ونجحا في فترة قياسية في اجتياح وسائل الإعلام الرقمية وجذب آلاف المتابعين لهما. وعلى الرغم من صغر سنهما نسبيًا، إلا أنهما نجحا بشكل فعال في تنظيم الدعم والتأييد، ونشر رسالتهما إلى الجماهير المحلية والدولية. وفي خطاب تخرّجها من جامعة بيرزيت، أخيرا، تحدّثت منى الكرد عن الحقبة الجديدة التي سطّرتها وشقيقها ومعهما جموع من النشطاء، وهي حقبة التأثير عبر الإعلام الرقمي، حتى أصبحت أصوات الفلسطينيين مسموعة، على الرغم مما يعانيه المحتوى الفلسطيني من إعدامات رقمية، تمارسها وسائل التواصل الاجتماعي، تماشيا مع ضغوط إسرائيلية، كي تبقى رواية الاحتلال هي السائدة.
نجح محمد ومنى وغيرهما من عشرات النشطاء الذين ساروا على دربهم في ترويج الاستراتيجية الإعلامية الجديدة من خلال اعتماد آلية النقل الحي والمباشر للأحداث أولًا بأول، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتوظيف لغات أجنبية، مثل الإنكليزية، لمخاطبة الغرب، وهو ما ساهم في إحداث التأثير والصحوة لدى الرأي العام الغربي الذي طالما ناصر الاحتلال الإسرائيلي، ورأى فيه صاحب الحق والضحية في آن واحد. وقد أشارت استطلاعات للرأي غربية عديدة إلى تراجع صورة إسرائيل أخيرا، وهو ما يمثل دليلًا على نجاح الفلسطينيين على المستوى الشعبي في قلب موازين المعركة، ونقلها من أرض الميدان إلى العالم الافتراضي.
نجح هذا الجيل في إدارة دفّة الخطاب الإعلامي الموجّه إلى العالم، وتحوّل إلى ناطق رسمي للأحداث
جانب آخر من جوانب نجاح هذا الجيل تمثل بإجبار قنوات إعلامية غربية كبرى، لطالما عُرفت بانحيازها لإسرائيل، على استضافة نشطاء فلسطينيين، في مقدمتهم محمد الكرد الذي امتاز بالتحدّث بالإنكليزية بطلاقة، وقوة استحضار المصطلحات القانونية التي تناسب الصراع. على سبيل المثال، كان الكرد يصف الاحتلال على شاشات تلك القنوات بالاستعمار والإحلال الكولونيالي. واستطاع أن يُجبر تلك المؤسسات على تغيير خطها التحريري في أحيانٍ كثيرة، وتسمية الأمور كما هي من دون تضليل أو تمييز؛ ففي أكثر من مقابلة صحافية، كان الكرد يصحّح أسئلة المذيعين المنحازة لإسرائيل، ويُجبر محاوريه على الإشارة إلى الأحداث، كما هي من دون تضليل أو تمييز.
وهكذا يمكن القول إن هذا الجيل نجح في إدارة دفّة الخطاب الإعلامي الموجّه إلى العالم، وتحوّل إلى ناطق رسمي للأحداث، بعد أن غابت الأصوات الرسمية عن الحدث، وعجزت سنوات طويلة عن فعل ما فعله هؤلاء الشبان خلال أسابيع قليلة. ما حققه الشباب الفلسطيني من نجاحاتٍ على الصعيد الإعلامي والرأي العام الغربي يستدعي ضرورة تطوير الخطاب الإعلامي الفلسطيني، لا سيما ذلك الموجّه إلى الغرب، واعتماد الخطاب المستند لحقوق الشعب الفلسطيني، بدلاً من مواصلة الخطاب العاطفي المُستهلك، والذي لا يُسمن ولا يغني من جوع.
أحداث القدس وغزة أثبتت أن في وسع الفلسطينيين قلب المعركة الإعلامية لمصلحتهم، من خلال التوظيف الصحيح للخطاب الإعلامي وأدواته
كان الحديث عن مثل هذه الاستراتيجية صعبًا في ظلّ المواجهة مع الدعاية الإسرائيلية (الهسبراه)، والقائمة على براعة الخطاب الإعلامي التضليلي الموجه إلى الرأي العام العربي والغربي على حد سواء. إذ نجحت إسرائيل سنوات طويلة من إقناع العالم الغربي، بروايتها الإعلامية المضادّة للرواية الفلسطينية، واستخدمت في ذلك دوائر ولوبيات خاصة. في المقابل، افتقد الفلسطينيون الخطاب الإعلامي الجاد والمدروس سنوات طويلة. ومع ظهور بعض الحركات الاجتماعية والحقوقية مثل حركات المقاطعة، تم اعتماد الخطاب الذي يركّز على إدانة الاحتلال، وفضح سياساته العنصرية تجاه الفلسطينيين، لكن خطاب هذه الحركات واجه شيطنةً إسرائيليةً ومن يناصرها من العرب، واتهامات بمعاداة السامية. ولكن أحداث القدس وغزة أثبتت أن في وسع الفلسطينيين قلب المعركة الإعلامية لمصلحتهم، من خلال التوظيف الصحيح للخطاب الإعلامي وأدواته. فعلى الرغم من محاولات الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية إظهار ما يجري في القدس خلافا عقاريا بين أطراف معينة، إلا أن الجيل الفلسطيني الجديد، وعبر الاستخدام الفعال لوسائل التواصل الاجتماعي، تفوّق في إدارة المعركة، وكذّب الرواية الإسرائيلية عبر البث المباشر للوجود العسكري للشرطة الإسرائيلية في الحي، ومهاجمة الفلسطينيين بالضرب والاعتقال. وهو ما تكرّر أيضاً خلال العدوان أخيرا على غزة، إذ نجح النشطاء الفلسطينيون في فضح الجرائم الإسرائيلية بحق الأطفال والنساء خلال الحرب عبر البث المباشر على وسائل الإعلام الرقمي.
أخيراً، قد لا يجلب هذا الجيل الصاعد النصر لفلسطين، لكنّه يشكل دافعاً لالتحام الفلسطينيين لمواجهة الاحتلال وجلب مزيد من الدعم العالمي لقضيتهم. لكن، على الفلسطينيين الاستمرار في تطوير خطابهم الإعلامي الرقمي، لا سيما الموجّه إلى الغرب؛ فالمعركة مع الاحتلال طويلة، والقضية الفلسطينية بحاجة للدعم العالمي المستمر، لا الدعم الموسمي الذي ينتهي في نهاية الحدث.